ثم يتحدثون، وبالفم الملآن، عن خصوصية هذه المنطقة «الجيوسياسية» أو تلك. ويبنون لأنفسهم قصوراً وممالك. فلكل منهم مملكته الخاصة، ربما في هذا الزاروب أو ذاك من زواريب وأزقة البلد. لكل منهم مملكته الخاصة به؛ وكذلك ومربعه الأمني أيضاً. فحذار أن تدخلوه أو تقربوه. وبعدها، يأتون إليك ليحدثوك، في حفلة من المزايدات الوقحة، عن الشرعية وعن سيادة الدولة وسلطانها.
نعيش، في الواقع وفي الحقيقة، فدرالية مقنّعة غير معلنة
فأين نحن من كل ذلك؟ وأكثر من هذا. فهم أيضاً ينزعون، في بعض المرات وفي بعض الأحيان، عن هذه «التلة»، أو ربما تلك «المزرعة»، صفة السيادة اللبنانية، وكأني بهم يحتفظون بصكوك الملكية، فيوزعونها يميناً ويساراً، تبعاً لما تشتهيه أنفسهم وأهواؤهم السياسية، القبلية والعشائرية والعنصرية. وفي ذلك مخالفة واضحة للقانون والدستور، بل تجاوز فاضح لكل منهما، وارتكاب متعمّد لجريمة الخيانة العظمى بعينها. فأين نحن من سيادة الدولة ومنطقها؟ وأين هي هيبة الدولة، أو ما تبقى من فتاتها وحطامها، في خضم هذه الحرب المبطنة أو المقنعة، الباردة تارة والحامية تارة أخرى، والتي تسخن وتحتدم وتستعر في العديد من المناسبات أو المحطات أو اللحظات الحاسمة أو الحرجة من تاريخ هذا البلد والدولة القائمة فيه، هذا على افتراض أنها قائمة على أرض الواقع وفي الحقيقة وموجودة بالفعل. فبئس هذا الزمن السياسي بمفرداته وتعابيره ومشاهده المقرفة والمقززة.
نعيش، في الواقع وفي الحقيقة، فدرالية مقنّعة غير معلنة. وهي أخطر ما تكون على السلم الأهلي والعيش المشترك وأمن واستقرار هذا البلد. هي فدرالية الطوائف والمذاهب والأحزاب السياسية الطائفية والمذهبية ومناطق النفوذ المغلقة أو المقفلة، والتي تسودها وتهيمن عليها قوى الأمر الواقع، من أمراء الطوائف والمذاهب وأمراء الحرب والميليشيات؛ ومعهم حيتان المال والمرابون ومصاصو الدماء من أصحاب المصارف والعقارات ورؤوس الأموال، وسواهم أيضاً ممن يتحكم بالقرار السياسي في هذا البلد، بل بمقدراته وثرواته، وهي حقوقنا نحن، وملكنا نحن، من رموز وأعلام هذه الطبقة السياسية، الفاسدة والساقطة؛ وفيها مفارقة التحالف المشبوه وغير المألوف وغير المسبوق، بين الإقطاع التقليدي والمالي السياسي.
* أستاذ محاضر وباحث مشارك في العلوم السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية وجامعة مونپلييه الفرنسية