الإرهاب المعولم، وتقويض أسس الدولة الوطنية وما ينتج عنه من تجويف لدولة الرعاية الاجتماعية
ويتّخذ الصراع الثقافي بعداً آخر في البلدان الأوروبية التي عرفت مؤخراً تعدّداً ثقافياً (3)، نتيجة نزوح الأقليات المهاجرة أو المهجّرة أو اللاجئة إليها. يمارس بعض الدول الأوروبية (فرنسا وألمانيا على سبيل المثال) إقصاءً لهذه الأقليات باعتبارها لامنتمية أو لا متجانسة، فتنكر على هؤلاء الأغيار ممارسة حقوقهم السياسية بحجة الخوف من تفكيك الوحدة القومية والإثنية للمواطنين الأصليين، أو خشية من التلويث الحضاري؛ ففي ألمانيا مثلاً عام 1990، طعنت المحكمة الدستورية في مشروع انتخابي يمنح الأجانب الذين حازوا شروط الإقامة حقهم في التصويت، وقد برّر القضاء رفضه للقانون بحجة أنه يتعارض مع جوهر الديموقراطية، «فالشعب هو مصدر الشرعية وصانع الدولة، أما الأجنبي فهو لا ينتمي إلى هذه الدولة» (4) . كما أن هذه الأقليات لا تحوز الحرية المطلقة لعيش نماذجها الثقافية المتمثّلة بالدين واللغة، بخاصة في الفضاء العام الذي يفرض فيه احترام ثقافة الأكثرية (كالقضية التي أثيرت في فرنسا عام 1989، لمنع ارتداء ثلاث نساء مغربيات الحجاب في الفصول الدراسية في الجامعات). إن إنكار الحرية الفكرية على الآخر اللامنتمي الذي مارسته فرنسا، وإجازتها للأصيل باسم المواطنة، تستولد مظانّ حول مصداقية القيم الغربية؛ كالحرية والديموقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان والمواطنة، وتستدعي إعادة النظر فيها.
ويستدعي الصراع الثقافي الذاكرة كإحدى أهم ركائز الهوية الرمزية. لذا يرتدّ بعض الهويات إلى مخزون ذاكرة يمكن أن تعمل على أدلجتها وتشويهها وتحريفها، لتوظيفها كأحد أهم مسوّغات تبرير الاعتراف بها في حروبها التي تخوضها لتوكيد وجودها. وهو ما نجحت فيه الصهيونية التي أسّست خطاب شرعيتها على ذاكرة تخييلية، محرّفة ومتلاعب بها. وهي تهندس هذه الذاكرة وفقاً لما يخدم العنصر الأيديولوجي الحاضر بقوة في عملية التزوير أو الانتقاء، في السردية المشحونة باستراتيجية ماكرة للتذكّر. ولأن «إسرائيل» تعي تماماً أهمية الثقافة في حروب اليوم، فهي تلهث وتخطط لكي تكون حاضرة معنوياً وثقافياً في المحافل الأكاديمية والرياضية والفنية كافة، لتدعم شرعيتها المغتصبة. وهي تستدعي أيضاً تهمة ثقافية جاهزة تشهرها في وجه من ينكرها، وهي تهمة العداء للسامية.
تختزن الثقافة إذن قيمة معنوية تتقوّم بها الهويات لترسّخ بها شرعيتها ولتطالب بالاعتراف بمكانتها. ولكن الصراع الرمزي لا ينحصر بالثقافة كعنصر مكتسب، فالهويات الطبيعية المتعلقة بنوع الجنس شهدت أيضاً حراكات ونضالات لتؤكّد خصوصية هويتها. ونقصد هنا «الجنسانية المحتقرة» (5) التي طالما مثّلتها المرأة، ولا تزال. فالبرغم من تاريخ حافل للنضال النسوي منذ عصور التنوير حتى اليوم، والذي أفرز تيارات فكرية نسوية عديدة (6)، وبالرغم من حضور المرأة في مجالات العمل وما أتاحه لها من تحرّر اقتصادي، إلا أنها ما زالت في بعض المجتمعات رهينة المنظورات التقليدية، والأحكام الأبوية الجاهزة ذات الخلفيات الدينية والقانونية الجائرة. فانعتاق المرأة من قوامة الرجل الاقتصادية لم يحرّرها من نظرة النقص العقلي والديني، فقصورها هو لعنة الخليقة التي يجب أن تستمر في دفع ثمنه؛ ضرباً وتحرّشاً وتعنيفاً واستغلالاً وتبخيساً في قيمتها واختزال كيانها في البعد الجسدي. هذا عدا عن إقصائها عن الحياة السياسية. كما أن جمال المرأة هو المادة الأكثر عرضة للتسليع التجاري والتسويقي في مجال الإعلانات. وتشكّل الجنوسة أحد أشكال الوضعيات المتردية للمرأة التي لا تجازى ولا تكافأ على الأعمال المنزلية. تشي هذه الوضعية عن هيمنة مركزيات دينية وتقليدية في مجتمعات متصلّبة تحرص على إعادة إنتاج نفسها من خلال ترسيخ القيم الذكورية عبر مؤسساتها الدينية والقانونية والأسرية والتربوية.
وفيما يختصّ بالهوية الجنسية، نلحظ نشاطاً لافتاً للمثليين في المجتمعات الغربية، ولقد أحرزوا نجاحاً تمثّل في الاعتراف بهم كهوية خاصة، بغضّ النظر عن مكانتها الاقتصادية. ولا بدّ من ذكر التمييز العرقي الذي يعتبر من مخلّفات الاستعمار الأوروبي. فالبرغم من ثورات الزنوج ونضالاتهم وإحرازهم المساواة أسوة بالبيض، إلا أنّ الملوّنين لا يزالون يقبعون في أدنى درجات السلّم الوظيفي، ويُستدعون للأعمال المنزلية وأعمال النظافة، عدا عن استغلالهم كيد عاملة رخيصة في مصانع ومعامل لا تلتزم بقوانين العمل ولا تتحلى بمعايير السلامة الإنسانية.
ولا تنفصل التحركات البيئية عن سياق المطالبة بتكوين ثقافة سوية تصحح علاقة الإنسان مع محيطه الطبيعي. وبدأت الحركات المدافعة عن البيئة تنشط في الستينيات من القرن العشرين، وتشعّبت إلى مدارس متنوعة، تندّد بإخفاقات العقل الإنساني في التعامل مع البيئة الطبيعية، وذلك بسبب الفهم الناقص لموضعتنا في المنظومة الطبيعية ككائنات أيكولوجية، وانعكس هذا الفهم في تواصلية مشوّهة مع محيطنا الطبيعي الذي سلخنا أنفسنا عنه وتعالينا عليه. وتعمل الحراكات البيئية على نشر ثقافة بيئية تعترف بالآخر غير البشري، ما يستلزم وعياً منفتحاً بنّاءً، مغايراً للوعي الأداتي الاستثماري. فأزمة البيئة تدلّل على الوضعية المأزومة لعقلانية الهيمنة.
لا تدّعي هذه المقالة الإحاطة بكل أشكال الصراعات ذات البعد الرمزي، فالأمثلة كثيرة، كنضالات الفئات المُقصاة من الحياة السياسية، والنزعات الانفصالية، والجمعيات المطالبة بحقوق الإنسان والطفل، وإن كانت تجارب الإقصاء دفعت أفرادها أو جماعاتها إلى خوض صراع من أجل الاعتراف (7)، فهناك فئات كثيرة لا مرئية، تقبع في مجال المسكوت عنه حيث لا صوت لها لتندّد به، فتغرق في عزلة الرذل والنسيان. وإذا كانت هذه الأمثلة التي عرضنا لها تتموضع في خانة الصراع الثقافي، فذلك لا ينفي وجود صراعات مطلبية ونقابية ذات أسس اقتصادية. كما أن تحليل أبعاد الصراع وفهم خلفياته يقتضيان إخراجه من الثنائية التقابلية للاقتصادي - الثقافي، لأن المجتمع لا يقوم على أحادية واحد من عناصره التي تتضافر وتتواشج في عملية جدلية متشابكة يصعب تأويلها حصراَ، إما بالنزعة الثقافوية أو بالتمسك بغلبة التحليل الاقتصادوي. لذا فإنّ الإحالة إلى أحد العنصرين تقتضي دراسات ميدانية وتضافر جهود أبحاث العلوم البينية، لتقصّي المضمون الثقافي الثاوي في العمليات الاقتصادية، واستجلاء الأبعاد الاقتصادية التي تحفر في المسالك الذهنية والسلوكية اليومية للأفراد في فاعليتهم الاجتماعية.
بات عالمنا متشابهاً في أزماته المتراكمة والمتشابكة؛ الإرهاب المعولم، وتقويض أسس الدولة الوطنية وما ينتج عنه من تجويف لدولة الرعاية الاجتماعية وتهليكها، ولهاث نحو الخصخصة التي تجيّر المرافق الأساسية في بنية الدولة إلى البنوك الدولية راعية مصالح الرأسمال العالمي. تسفر هذه التحوّلات عن تأزيم المشكلات الاجتماعية، كالفقر والبطالة، والعمل في ظروف قاهرة ومهينة، وحروب أهلية سافرة أو مضمرة، وضرب للبنى الجماعية المتطلّعة إلى التغيير، كأحزاب ونقابات أو مشاريع ذات مطامح تحرّرية. وبالرّغم من استفحال هذه الأزمات وضراوة تأثيرها اليومي والمعيش على المجتمع وناسه، إلّا أنّه يتمّ تغييبها وطمسها من خلال الضخّ والتحشيد لتخليق وعي منحرف وبائس، يلتهي بهوس الهويات المتقاتلة والمتنابذة، والعنصريات المتبادلة التي يطارد بعضها بعضاً. والسؤال هو لمصلحة من يتمّ حرف وجهة الصراع وتزييف مبرّراته؟
* أستاذة فلسفة في التعليم الثانوي