لن تذهب بكين إلى تعزيز تحالفها مع موسكو لاعتبارات عدة
مضت الولايات المتحدة، في مرحلة سيادتها العالمية التي استشرفت أنها لن تطول خصوصاً ما بعد «نخري» أفغانستان والعراق، نحو استخدام «بطارية» السبعينيات، لكن بعد قلب الأقطاب، بمعنى محاولة جر موسكو إلى خندقها لتلعب هذي الأخيرة الدور الذي لعبته بكين في السابق، والمحاولة تجلّت بوضوح كبير زمن دونالد ترامب الذي راح يغازل روسيا التي بدت أمامه قوّة آفلة لكنها تحاول البقاء في صدارة المشهد. لكن المحاولة لم تنجح لاعتبارات لها علاقة بخيارات موسكو التي أدركت أن الابتعاد عن خيار «التوجه شرقاً» سوف يجعلها تلقى المصير نفسه الذي لقيه اتحادها السوفياتي السابق. ثم إن البادي ببكين سوف يثنّي بموسكو، خصوصاً أن الفكر الاستراتيجي الغربي، متمثلاً بـ«معهد استوكهولم» للدراسات الاستراتيجية الذي يمثّل ثاني أهم مركز لدراسة الصراعات الدولية، كان قد خرج بنبوءة صارخة بعد عام واحد على انهيار الاتحاد السوفياتي جاء فيها أن «الدولة الروسية سوف تعود إلى أن تصبح دولة مدينة، إلى ما كانت عليه قبل عام 1512، حدودها حدود مدينة موسكو آنذاك».
نقول من دون أدنى شك ترى الصين نفسها اليوم حليفة لموسكو، أو شريكاً لها على أقل اعتبار في مواجهة الولايات المتحدة. ومن المؤكد أن ذلك التحالف، أو تلك الشراكة، الذي تفرضه معطيات مرحلية، كان وارداً في الحسابات الروسية عشية القرار ببدء عمل عسكري في أوكرانيا. وعلى الرغم من الصورة المتشائمة التي ارتسمت على شبكية العين الصينية في غضون الأسابيع الثلاثة التي تلت القيام بهذا الفعل الأخير، فإن بكين أكدت على لسان وزير خارجيتها وانغ بي (7 آذار الجاري) أن «الصداقة بين موسكو وبكين ما زالت قوية جداً» رغم الإدانة الدولية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وفي المجمل، يمكن القول إن بكين لن تبتعد، في وقت قريب، عن هذا السياق الذي رسمه وزير خارجيتها آنف الذكر.
لكن الواقعية المفرطة التي تظلل سياسات بكين، منذ أحداث 1988 وتجربة انهيار «الشقيق السوفياتي» 1991، إضافة إلى الحذر الصيني الذي يسجّل عادة مناسيب مرتفعة تفوق بأضعاف تلك التي تسجلها نظائرها عند الآخرين، سيدفعان ببكين قدماً إلى البقاء عند هذا السقف الذي رسمته الأخيرة لنفسها. هي لن تذهب إلى تعزيز تحالفها مع موسكو لاعتبارات عدة، لعل أبرزها يستند، في نهاية المطاف، إلى رؤيا مفادها أنها هي المستهدف الأكبر في كل ما يجري. فالعقوبات غير المسبوقة على روسيا هي أشبه بـ«ضرب الخراف لإخافة الثيران»، أو أنها تدريب استباقي للمنازلة الكبرى، ناهيك عن أنها الآن في مرحلة حساسة من نهوضها لا تريد فيها خسارة أسواق الغرب التي تؤمّن بقاء نموّها الاقتصادي عند المستويات التي وصل إليها. ولربما كانت بكين اليوم أقرب إلى تبني النظرة الغربية التي رسمها «معهد استوكهولم» آنف الذكر، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه صينياً على الأقل. يمكن القول إن بقاء الاتحاد الروسي بتركيبته الراهنة بات مرهوناً بقضايا متلازمة، ومتناقضة أحياناً، منها النجاح في عملية التحديث، ثم اعتماد التنويع الاقتصادي، وصولاً إلى تبني اللامركزية الحقيقية. وتلك مسائل لا يبدو النظام الروسي بقادر على طرق أبوابها دفعة واحدة، بل ولربما غير قادر على طرقها جزئياً.
صحيح أن هذا المسار قد يكون طويلاً، لكنه وارد في الحسابات الصينية. ولذا فإن الشراكة الصينية- الروسية من الصعب لها أن تشهد سقوفاً أعلى لتلك التي شهدتها حتى الآن في ذروة الأزمة. وقبيل أن نغلق فكرة من هذا النوع تجدر الإشارة إلى أن فعلاً من هذا النوع، أي تفكك الاتحاد الروسي، سيراكم الكثير من المكاسب في الجعاب الصينية.
الصين اليوم ترى أن زعامة فلاديمير بوتين، التي تستمد جزءاً من مشروعيّتها من مناهضتها للمشروع الغربي، مفيدة مرحلياً. لكن الحرب، وتبعاتها التي يصعب الآن التنبؤ بالمآلات التي يمكن أن تصل إليها، قد تؤدي إلى قلب ما سبق رأساً على عقب. بمعنى أن تلك الزعامة قد تصبح عبئاً على بكين سوف يصعب تحمّله. والمؤكد هو أن الغرب راهناً، بالرغم من تحديد الصين كخطر أوّل على «ديموقراطيته»، و زعامته العالمية، مستعد لدفع الأثمان التي تريدها بكين حين وصولها إلى الإحساس بذلك «العبء».
سؤال هام تطرحه السياقات السابقة: هل تكرّر بكين سيناريو العام 1971 فتقود من جديد نظيراً له يؤدّي هذه المرة إلى تشظي الاتحاد الروسي؟
* كاتب سوري