وتكمن المشكلة القانونية الأكثر تعقيداً في المعايير الغربية المزدوجة، فدول الغرب عندما تصل النوبة إلى الحديث عن الإجرام الصهيوني، وخرق إسرائيل للقانون الدولي، تصمّ آذانها، وتصمت ولا تأتي أبداً على ذكر الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق المدنيين. فمنذ بدء عدوانها على القطاع، تنتهك إسرائيل القانون الدولي الإنساني الذي يعالج وينظّم قواعد الحرب خلال النزاعات المسلّحة، وبذلك فإن الكيان الغاصب ينتهك اتفاقية جنيف الأولى عام 1864 واتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة، ميثاق الأمم المتحدة، إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجّرة، قانون الاحتلال الحربي (الذي يوجب على سلطات الاحتلال تحييد المدنيين وعدم التغيير في معالم الإقليم)، اتفاقية لاهاي لعام 1907 (التي تهدف إلى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلّحة)، بروتوكول جنيف بشأن حظر استعمال الغازات السامة لعام 1925، اتفاقية منع استخدام الأسلحة الكيماوية، اتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة، وغيرها من الاتفاقيات الدولية.
ومن خلال الجرائم المرتكبة بحق أهالي غزة، ووفق ما تؤكّده المعاهدات والاتفاقيات والنصوص الدولية، فلا ريب أن ما يقوم به العدو الإسرائيلي يشكّل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني وللعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، كمبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال وموجب تحييد المدنيين، أضف إلى ذلك أن العدو يخرق المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد فضّ جميع المنازعات بالوسائل السلمية، وتحظر التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي.
ويتمثّل ثقل المعايير الأساسية للقانون الدولي الإنساني في النظام الدولي الحالي، باتفاقيات جنيف الأربع، فكما يبدو فإن الجيش الجيش الإسرائيلي يخرق المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في القوات المسلحة في الميدان المؤرّخة في 12 آب/ أغسطس 1949، والتي جاء فيها أنه «يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة 13». ويخرق المادة 3 من الاتفاقيات الأربع التي تقول إن «الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا عنهم أسلحتهم، والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر، يُعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية...». وكذلك ما تنص عليه المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب.
وتؤكد بروتوكولات جنيف أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال تعريض الأشخاص المدنيين وكل الذين كفّوا عن المشاركة في القتال لخطر الهجمات بل تجب صيانتهم من أي خطر. ولكن للأسف فإن هذه المبادئ لا يُعتدّ بها على أرض الواقع لأن الفلسطينيين ما فتئوا يعانون من النصيب الأكبر خلال كل عدوان صهيوني على غزة.
يعد العقاب الجماعي للسكان المدنيين، مثل الحصار، بمثابة جريمة إبادة
ويُعد الحصار الذي أعلن عنه وزير حرب العدو بالقول «لقد أصدرت الأمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا غاز، كل شيء مغلق، نحن نقاتل حيوانات بشرية»، أحد أبرز وجوه الانتهاكات للقانون الدولي، وقد أكّدت الأمم المتحدة أن هذا الحصار يتعارض مع القانون الدولي الإنساني، وقال مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في بيان: «إن فرض حصار يعرّض حياة المدنيين للخطر من خلال حرمانهم من السلع الأساسية للبقاء، محظور بموجب القانون الدولي الإنساني». وبحسب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن المدنيين الصادرة في عام 1949، تحت بند «المسؤولية الفردية والعقوبات الجماعية والنهب والانتقام»، «لا يجوز معاقبة أي شخص محميّ على جريمة لم يرتكبها هو شخصياً. وتحظر العقوبات الجماعية».
ويُعتبر القتل الذي يحصل للمدنيين جريمة حرب وهي، بحسب المادة 8 من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرّخة في 12 آب / أغسطس 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة: القتل العمد، التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك إجراء تجارب بيولوجية، تعمّد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة. وكذلك يُعتبر الحصار جريمة إبادة جماعية.
ويُعد العقاب الجماعي للسكان المدنيين، مثل الحصار، بمثابة جريمة إبادة، وتقول المادة 6 إن الإبادة الجماعية هي «أي فعل من الأفعال التالية يُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً، قتل أفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً، وغيرها».
كذلك، يُعتبر تهجير السكان من ضمن الجرائم ضد الإنسانية، حيث تؤكد المادة السابعة من نظام روما، أنه متى ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أيّ مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم: القتل العمد، الإبادة، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، وجريمة الفصل العنصري.
إذاً، كما يتضح لقد وصلت الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين، وإلحاق أكبر الخسائر بهم وبممتلكاتهم وتعمّد قصف المنازل السكنية والممتلكات العامة باستخدام مختلف الأسلحة الفتّاكة خلال هذا العدوان، إلى حد جرائم الحرب، وبالتالي لا بد من التحرك لدى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين.
فجرائم الحرب هي خروقات خطيرة لاتفاقيات جنيف الموقّعة عام 1949 وانتهاكات خطيرة أخرى لقوانين الحرب، متى ارتُكبت على نطاق واسع في إطار نزاع مسلح دولي أو داخلي. وعرّف ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية لعام 1945 جرائم الحرب بأنها «انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها، بما في ذلك قتل مدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم، قتل أسرى حرب أو إساءة معاملتهم، قتل رهائن، سلب ملكية خاصة، والتدمير غير الضروري عسكرياً».
لا شك لدينا أن الصهاينة يفلتون من العقاب، لأن المجتمع الدولي الزائف يدعمهم بذلك، ولكن يجب على ما تبقّى من دول شريفة التحرك العاجل لحماية أهالي غزة من العدوان الإسرائيلي، وتفعيل الملاحقة والمُساءَلة لمن أمر أو نفّذ جرائم الحرب.
* باحث وأستاذ جامعي