صعود نجم كيسنجر داخلَ المؤسسة الأميركية الحاكمة واحتلاله مناصب رسمية، كلّ ذلك تمّ في الفترة التاريخية التي كانت الولايات المتحدة تتربّع فيها على رأس هرم النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. تمحور اهتمام «الصبي اليهودي»، كما كان يسميه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، حول كيفية إدارة الصراع مع المنافس الإستراتيجي السوفياتي واستكمال الهجوم في بلدان الجنوب، الخارجة لتوّها من نير القوى الاستعمارية الأوروبية، لبسط الهيمنة الأميركية عليها وترسيخها. تبنّيه لأطروحات «المدرسة الواقعية» في السياسة الخارجية، رغم عدائه الشديد للسوفيات، دفع به لتبنّي «سياسة الانفراج» تجاههم، التي تُرجمت باتفاقية «سالت 1» للحد من الأسلحة النووية، والسعي إلى تخفيض التوترات المباشرة معهم، أي وقف سباق التسلح النووي الذي كان يثقل كاهل موسكو، مع العمل على استغلال التناقض الصيني-السوفياتي لاستمالة بكين في سياق المجابهة الإستراتيجية بين واشنطن وموسكو في تلك الحقبة.
بكلام آخر، هو حرص على تخفيض جزئي لحدّة الصراع مع الاتحاد السوفياتي مستفيداً من المعطيات المتوفرة لديه عن الأعباء التي بدأ يواجهها اقتصاده نتيجة لسباق التسلح، مع التوجّه لإتمام صفقة شاملة مع الصين تتضمّن مقايضة بين إعادة تموضعها في موقع معادٍ للسوفيات، والانفتاح اقتصادياً عليها ونقل التكنولوجيا المتطورة إليها. وقد تكلّلت جهوده بالنجاح بعد زيارة نيكسون لبكين، ولقائه مع الرئيس ماو تسي تونغ، التي مثّلت منعطفاً حاسماً في تاريخ العلاقات بين البلدين. وقد نجحت الصين في توظيف هذه الصفقة لصالح مشروعها لتحقيق نهضة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية هائلة، ما يفسر حرص مسؤوليها على تسمية كيسنجر بـ«العزيز هنري» واستقباله المتكرر بحفاوة بالغة لأشهر قليلة قبل وفاته.
صعود نجم كيسنجر داخلَ المؤسسة الأميركية الحاكمة واحتلاله مناصب رسمية، كلّ ذلك تمّ في الفترة التاريخية التي كانت الولايات المتحدة تتربّع فيها على رأس هرم النظام الدولي
غير أن هذه المقاربة الواقعية في التعامل مع قوى كبرى ومتوسطة ترافقت مع توحّش بالغ حيال شعوب وبلدان الجنوب الساعية إلى الاستقلال. فهو الذي أوصى، عندما كان مستشاراً للأمن القومي لنيكسون، بتسعير الحرب ضد فييتنام، وبتوسيعها عبر قصف مواقع ثوارها في كمبوديا ولاوس، ما أدى إلى قتل أعداد هائلة من المدنيين في البلدان الثلاثة. سياسة سحق الحركات الثورية في الجنوب، أو محاولة سحقها تماماً، كانت جزءاً لا يتجزأ من المقاربة «الواقعية» التي بشّر بها. مسؤوليته المباشرة عن الانقلاب الدامي على الرئيس التشيلي المنتخب سيلفادور الأيندي لم تعد محط جدال، ولا دعمه غير المحدود للطغمة العسكرية في الأرجنتين.
مساندته غير المشروطة لإسرائيل، إضافة إلى ارتباطها بانحيازه المطلق لها كيهودي صهيوني، كلّ ذلك يندرج في نفس سياق سعيه لبسط الهيمنة الأميركية على المنطقة والإجهاز على التوجّهات التحررية فيها. هو اعتبر أن إسرائيل هي بمثابة الأداة التي ستتيح، وفي ظل وجود أنور السادات على رأس السلطة في مصر، إخراج هذه الأخيرة من موقعها كقيادة للنظام العربي، ودخولها في المعسكر الأميركي. وبطبيعة الحال، فإنّ مثل هذا الخروج سيسمح لإسرائيل بالاستفراد بالفلسطينيين وبدول الطوق في المشرق وفي مقدّمتها سوريا.
في سجلّ كيسنجر أيضاً، تشجيعه وتأييده لغزو نظام سوهارتو في إندونيسيا لجزيرة تيمور الشرقية، مع ما تخلّل هذا الغزو من عمليات إبادة لسكانها الأصليين. ضحايا بطريرك «الواقعية» يُعدّون بالملايين، ومحاولات أجهزة الدعاية الأميركية والغربية بتقديمه بصورة الحكيم الحريص على تجنيب العالم كارثة هائلة قد تنجم عن صدام أميركي-صيني لن تنطلي على أحد. ربما ستفرج بكين يوماً ما عن مقدار المبالغ التي تقاضاها للإدلاء بمثل هذه المواقف. ما يشفي غليلنا أنه بلا ريب مات والحسرة في قلبه من رؤية انحسار نفوذ الغرب عالمياً وتداعي النظام الدولي الليبرالي الذي سخّر حياته لخدمته.