ظهرت المسيحية الشرقية في العصور المبكرة قبل وبعد ميلاد السيد المسيح، كحركة إيمانية ــ فلسفية ــ أخلاقية ــ اجتماعية منظمة، بوصفها أرفع شكل من أشكال التآخي بين الشعوب القديمة، التي كانت تقطن المنطقة الشاسعة التي تألفت منها لاحقاً الأمة العربية الواحدة، والتي نسميها اليوم الوطن العربي الكبير. وبعد سقوط قرطاجة، وقبل ظهور الدين الإسلامي الحنيف بمئات السنين، شكلت المجموعات المسيحية الشرقية «العربية» طليعة النضال ضد الاستبداد والاستعمار الروماني، وضد الاستغلال الطفيلي والفساد «اليهودي». وكان ظهور يوحنا المعمدان، وتبشيره بقدوم السيد المسيح، ثم قطع رأسه، أحد أهم معالم المسيحية الشرقية. وكانت قمة التضحيات التي قدمتها المسيحية الشرقية «العربية» هو اعتقال السيد المسيح ذاته وإهانته وتعذيبه والحكم عليه بالموت بموجب القانون «الديني» اليهودي وبموجب قانون «الدولة الرومانية»، ثم قتله على الصليب. ومن أعاجيب التاريخ، أن الفاتيكان الموقر، انطلاقاً من مبدأ «التسامح المسيحي»، برّأ ذرية اليهود من دم المسيح (قرار المجمع المسكوني سنة 1965)، في حين أن القيادة الدينية اليهودية لم تعترف إلى اليوم بأنّ «الحكم الديني اليهودي بالموت» على المسيح لم يكن مجرد خطأ، بل كان جريمة بحق المعتقد الديني المسيحي وبحق الإنسانية. كذلك إن قيادة الدولة الإيطالية وكل الدول الأوروبية والغربية التي ورثت حضارياً الإمبراطورية الرومانية لم تعلن إلى اليوم لاقانونية ولاشرعية الحكم بالموت على السيد المسيح. وبعد صلب المسيح وقيامته من الموت وصعوده إلى السماء، تصدى تلامذته والروابط والأخويات «المسيحية الشيوعية» الأولى، والكنائس والأديرة والصوامع ومحابس الرهبان، للطغيان الروماني والانحراف والانتهازية لقادة اليهود آنذاك. وكان المسيحيون الأوائل يبادون جماعياً، كما جرى لأصحاب الأخدود الذين تحدث عنهم القرآن الكريم.
وبعقيدتها الإيمانية بمجيء المسيح ــ المخلص، ثم بإيمانها بتجسد وميلاد السيد المسيح من البتول مريم، وصلبه على يد الرومان واليهود، وبمتابعتها النضال ضد الطغيان والاستبداد الروماني، وضد الاستغلال اليهودي، مثلت المسيحية الشرقية «العربية» المدماك الأول لتوحيد شعوب ليبيا والمغرب الكبير، ووادي النيل، وسوريا الطبيعية، واليمن وشبه الجزيرة العربية، وبلاد ما بين النهرين، في بوتقة حضارية واحدة تمخض مسارها التاريخي عن ولادة الأمة العربية الواحدة.
وجاء الدين الإسلامي الحنيف لا لينقض، بل ليتوج هذه العملية الحضارية التاريخية، التي انتهت بظهور الحضارة العربية ــ الاسلامية، التي ورثت وطورت كل حضارات شعوب الشرق العربي القديمة.
ولكن تكاتف نزعة الاستعمار الغربي (بدءاً من الحروب الصليبية) ونزعة الاستعباد العثماني (الإسلامي المزيف)، قوّض الحضارة العربية ــ الإسلامية، ووضع الأمة العربية في الخانة الصفر.
ومنذ ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، ثم «معاهدة سايكس ــ بيكو» و«وعد بلفور»، ثم إنشاء إسرائيل نتيجةً للقرار الإمبريالي الغربي ولخيانة المبادئ الشيوعية من قبل القيادة السوفياتية الستالينية، تتعرض الأمة العربية لهجمة شرسة، هدفها الأساسي: خنق النهضة العربية الجديدة التي بدأت بواكيرها عشية القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين، وتمزيق وحدة الأمة العربية ومنعها من العودة إلى احتلال مكانها الطبيعي على مسرح السياسة الدولية والحضارة العالمية، وتحويلها إلى مساحة جغرافية وحسب كـ«مدى حيوي» للغرب الإمبريالي، والاستيلاء على أراضيها ونهب خيراتها الطبيعية البكر.
لكن بعد زوال الكابوس العثماني الذي كتم أنفاس الأمة باسم «الإسلام»، ورغم تحويل المنطقة العربية إلى فسيفساء دول عاجزة ومتخلفة، ورغم الانتصارات التي حققتها إسرائيل في حروبها العدوانية على الدول العربية، واجهت التركيبة الإمبريالية ــ الصهيونية العالمية مقاومة شرسة من قبل حركة التحرر العربية. وقد عجزت التركيبة الإمبريالية ــ الصهيونية عن القضاء على روح المقاومة الشعبية، لسبب جوهري هو أنها عجزت عن محو الذاكرة الجمعية للجماهير العربية، أي الذاكرة المتمثلة في «الهوية القومية الحضارية الجامعة» للأمة العربية الواحدة. لكن التركيبة الإمبريالية ــ الصهيونية العالمية، وعلى رأسها الدولة الأميركية، لم تستسلم لهذا الفشل، ولم تقف مكتوفة الأيدي.
ومنذ أواخر القرن الماضي، وتحديداً منذ طرح صاموئيل هنتنغتون نظريته في «صراع الحضارات»، بدأت واشنطن وأجهزتها السياسية والاستخبارية وكامل التركيبة الاستراتيجية العسكرية ــ السياسية ــ الاقتصادية ــ الثقافية، للإمبريالية ــ الصهيونية العالمية، بدأت حملة عالمية شعواء وشاملة لتفكيك ومسخ «الهوية الحضارية التاريخية» للأمة العربية، والقضاء على تلك الهوية.
وتدور هذه الحملة على ثلاثة محاور، مختلفة في الشكل، متلازمة في الجوهر. وهذه المحاور هي:
_ تبرئة الغرب الإمبريالي من المسؤولية إقامة ودعم الأنظمة الرجعية والدكتاتورية الفاسدة في فسيفساء «سايكس ــ بيكو» العربية القطرية، وصم الآذان بالعزف صبحاً ومساءً على معزوفة: الحداثة والتحديث والتجربة الأتاتوركية والديموقراطية وحقوق الإنسان، بهدف تمزيق النسيج الوطني في كل قطر عربي على حدة، وضرب المجتمع العربي التعددي بعضه ببعض.
_ الصراخ بأعلى الأصوات ضد «الإرهاب» و«الإسلام الارهابي» بهدف تغطية الدعم المطلق، السري والعلني، للجماعات «الإسلامية» المزيفة، التي تعيث فساداً في البلدان العربية، بهدف استعداء العالم ضد العرب والشعوب العربية.
_ التخلص النهائي من الوجود المسيحي في البلدان العربية.
وعلينا أن نتوقف بنحو خاص عند هذه النقطة الأخيرة بالذات، التي نعدّها المحور الرئيسي للاستراتيجية الإمبريالية المعادية للأمة العربية.
إن الإمبريالية ــ الصهيونية العالمية حينما تصوّب سهامها المسمومة، وخصوصاً بواسطة «الإسلاميين» المزيفين، ضد الوجود المسيحي العربي فهي لا تفعل ذلك عبثاً، كرمية من غير رامٍ، بل بالعكس: إنها تصوب على «المقتل» الأول والأساسي للوجود القومي العربي وللهوية الحضارية للقومية العربية، التي تمثل المسيحية الشرقية مدماكها الأساسي وعنوانها الرئيسي.
فإذا ما سقطت «المسيحية العربية»، سيسقط أوتوماتيكياً «الإسلام العربي»، الذي مثل تاريخياً الوجه الحضاري المشرق للإسلام، وسيحل محله «الإسلام» المزيف «العرباني» (بالمفهوم الابن ـ خلدوني) أو المملوكي أو العثماني أو القراقوشي أو التيمورلنكي، الذي يأتي في رأس تطلعاته «الحداثية»: سحق العرب ودفعهم إلى الدرك الأسفل، وإلغاء وجودهم كأمة... وكل ذلك باسم الإسلام.
نستنتج من ذلك، وببساطة أبسط معادلة حسابية: إنّ الدفاع عن وجود «المسيحية العربية» يمثل بامتياز اليوم، وكل يوم، «خط الدفاع الأول» عن «الإسلام العربي» الحضاري، وعن «الهوية الحضارية التاريخية» للأمة العربية.
وهذا يعني أن مهمة الدفاع عن الوجود المسيحي العربي هي أكبر بكثير من مسألة الدفاع عن الأقليات، وعن حرية المعتقد الديني، وعن التآخي الإسلامي ــ المسيحي، وعن التسامح الديني، وما إلى ذلك. إنّ مهمة الدفاع عن الوجود المسيحي العربي تعني كل هذه القيم، ولكنها في الوقت نفسه تعني الدفاع أولاً وأخيراً عن وجود الأمة العربية، وعن المحتوى الحضاري للقومية العربية، وعن المحتوى الحضاري للدين الإسلامي الحنيف، وعن وجود الإسلام العربي، كرسالة حضارية وكجماعة بشرية حضارية. فبدون المسيحية العربية لا وجود للرسالة الحضارية للإسلام. وبدون المسيحية العربية يتحول العرب إلى قطيع بشري تسوسه وتتحكم به الإمبريالية والصهيونية العالمية.
*كاتب لبناني
8 تعليق
التعليقات
-
المال والبنون زينة الحياةالمال والبنون زينة الحياة الدنيا والسيد المسيح قال لا تعبدوا ربان المال والله نحن بحاجة الى اله يكسر لنا صنم المال عدو الله وعدو الناس الطيبين والمتعبين وعلى هذا الاله ان يجعلنا في قلبه ويهدينا بالاكراه والقوة
-
لا حل إلا بالعلمانية!أستاذ جورج! لنكن صريحين! اقتبس الإسلام من اليهودية أفكار الكراهية والإرهاب، ولذلك أصبح دوره معيقآ لوحدة وتطور العرب (والمسلمين) بالمعنى الحضاري المعاصر للكلمة!!!
-
تقبشني الممانعة الطائفية.تقبشني الممانعة الطائفية. كأني عم أقرأ لإيلي فرزلي اللي همو الأول والأخير فلسطين ومش أي شي تاني بنوب.
-
المسيحية العربية هي حجر الاساس للحضارة العربية الاسلاميةكل كلمة في المقال صحيحة وسليمة وهذا كان كل املنا وعشمنا بالميسحيين وهكذا كانوا دوما من ايام بني تغلب الى فارس الخوري وجول جمال ولائحة طويلة جدا من الاخوة والوطنية والشعور القومي النقي. الا ان فئة ضالة قامت بين بعضهم بوحي من الصهيونية وصارت تحكي بالتقسيم وطبعا كانت حجتها فزاعة التوطين التي تعرف تلك الجماعة انها كذبة اخترعتها لكي تبرر قتل اولاد الناس وهي تعرف تمام المعرفة ان الفلسطيني ليس بوارد توطين لا عندهم ولا عند غيرهم. وكان لتلك الفئة الضالة والبدعة الكاذبة شر الاثر على المسيحيين قبل غيرهم وللاسف فان تلك الفئة الخارجة عن الطبيعة بحجة المشرقية والفينيقية والامومة الفرنسية لم ترتدع وصارت تلوح بعلم اميركا بعد ان كانت تلوح بعلم فرنسا ومن خلف الاثنين علم اسرائيل. ولولا تلك الفئة الموهومة التي حكمت لبنان كمزرعة او جمهورية موز بس موز صومالي مش موز بلدي لكان عيش المسلم والمسيحي عيشا رغدا ولكانت ايامهم كلها الخير والمحبة والتضامن في السراء والضراء. متى عرف الضالون انه ما من مكان لهم في عالمنا العربي المسحيي المسلم ستعود الامور الى افضل مما كانت عليه ولتلك الفئة هناك دوما مكان له في مربط خيل فرنسا او بلاد نجد التي ترعى ضلالهم وفتنتهم في البلاد وافسادهم في الارض. شكرا استاذ جورج حداد.
-
مقاربة دقيقة - سطحيةما يريده الغرب الامبريالي-الاستعماري لهذا المشرق هو التفتيت ثم التفتيت .. العودة بالمنطقةإلى عصر الأتابكيات (كما وصفه ألبير منصور في واحدة من اطلالاته مع عماد مرمل) لكن اقتصار الرؤية على مايريده الغرب فقط .. ودفن الرأس في الرمال ازاء الأسباب الذاتية لتدهور حال المنطقة .. وبالأخص اعتبار التيار الارهابي في الاسلام تيارا طارئا على التاريخ و أنه مستورد بالنفط والدولار (أين كان النفط يوم قطع ابن المقفع وصلب الحجاج !!!) هو السبب في أننا عاجزون عن انتاج ثورة اسلامية تنويرية على محنطات "السلف الصالح" .. انظر في كتب الشريعة الاسلامية التي تدرس في جامعات الدول العربية "التقدمية" ولك أن ترى كم التكفير التي تحفل بها كتب البوطي (وشيوخ الأزهر) فكيف بكتب ابن عثيمين و بقية أحفاد ابن تيمية !!!! المطلوب اليوم من المثقف وداعي التنوير هو اعادة قراءة التاريخ العربي-الاسلامي بدءا من يوم الخلافة الأول (بل و النبوة) ووصولا إلى اليوم لتبيان الغث من السمين في هذا الموروث التاريخي .. قبل ذلك سنبقى نعتبر أبو هريرة محدثا أولا و ابن تيمية شيخ الاسلام
-
يرجى الاتنبه"ومن أعاجيب التاريخ، أن الفاتيكان الموقر، انطلاقاً من مبدأ «التسامح المسيحي»، برّأ ذرية اليهود من دم المسيح (قرار المجمع المسكوني سنة 1965)" الا ترى معي ان هذا منطقي وحكيم؟ لا تستطيع ان تحاكم ذرية او انصار دين معين على فعل سياسي (بغلاف ديني كالعادة) حصل منذ الاف السنين والذرية يمكن ان تكون انت وانا احفاد اجدادنا حيث لا نعلم اي دين كانوا يعتنقون في ذاك الزمن. المنطقة الان بحاجة الى شيء من التسامح والانفتاح بين جميع الاديان والاثنيات والاصول الخ... والا عالمهوار