شكّلت الانتفاضة الشعبية في سوريا، منذ انطلاقتها، اختباراً صعباً بالنسبة إلى قوى المقاومة على امتداد مساحة العالم العربي. والمقصود المقاومة بمفهومها الواسع الذي يتعدى الكفاح المسلح إلى رفض الهيمنة الأميركية والصلح والتطبيع مع إسرائيل.لقد كانت الانتفاضة السورية مفاجئة بالنسبة إلى تلك القوى، فبعدما استقبلت الثورات في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن بمهرجانات الخطابات الرنانة، ودعمتها بلا تحفظ، تلقت أنباء اندلاع الاحتجاجات في سوريا بارتباك واضح، وصمت. فعلى الرغم من أنّ أحداً من تلك القوى لا يستطيع أن ينفي صفة الاستبداد عن النظام السوري، إلا أنّ أيّاً منها لم يكن ليتوقع أن تنتقل شرارة الثورة إلى سوريا، على الأقل في هذا الوقت المبكر. كان الاعتقاد أنّ نظام «الممانعة» في سوريا محصن أمام التغيير من الداخل، فللنظام سياسة خارجية كانت دائماً محل تقدير على المستوى الشعبي، ومواقفه السياسية المتعلقة بالصراع مع إسرائيل وبالسيادة الوطنية تُلامس الوجدان والضمير الشعبي السوري، والعربي بصفة عامة. وكان النظام السوري وحده تقريباً من بين الأنظمة العربية الذي رفض بحزم التدخل الخارجي في شؤونه.
يحسب للنظام السوري أنّه استطاع أن يؤسس لسياسة خارجية قائمة على نظرية أمن قومي، مستقلة عن السياسة الأميركية في المنطقة، ترى أنّ حدود الأمن القومي للدولة السورية تتجاوز حدود الجغرافيا السياسية للقطر السوري، على العكس من معظم الأنظمة العربية التي تقوقعت سياسياً داخل حدودها الجغرافية، وانحصرت سياستها الخارجية بلعب أدوار في إطار السياسة الأميركية في المنطقة. وعلى الصعيد الداخلي، أطلق النظام ذراعه الأمنية ليمسك بقبضة من حديد بكل مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد.
تراوحت مواقف قوى المقاومة من الحدث السوري بين الانحياز الكامل لرواية النظام، كما في حالة حزب الله، وبين الحياد وعدم الانحياز لطرف على حساب الآخر، كموقف القوى الفلسطينية الرئيسية، التي تمتلك وجوداً حقيقياً بين صفوف جماهير الشعب الفلسطيني. يُسجل لتلك القوى أنّها كانت شُجاعة في موقفها إلى حد ما، فلم تُستقطب إلى خانة النظام، على الرغم من أنّ جزءاً مهماً منها تربطه بالنظام علاقة تحالف استراتيجي، وهي تعلم أنّ حليفها السوري لن ينظر إلى حيادها بعين الرضى. حتى حركة فتح، التي لا تجمعها علاقة ودّ بالنظام السوري، لم تستغل الفرصة لتصفية الحسابات، وتعاطت بمسؤولية مع الأحداث في سوريا والتزمت بالموقف المتوازن الحيادي نفسه. وهنا يجدُر التمييز بين موقف فتح الرسمي، والمواقف المنفلتة والانتهازية لبعض النافذين في القيادة الفلسطينية أو بعض الشخصيات المحيطة بمحمود عباس، الذين يعرّفون أنفسهم كمستقلين ليبراليين. تماهى هؤلاء تماماً مع موقف الغرب ومحمياته في المنطقة من الحدث السوري، بل وصل الأمر بالبعض منهم إلى إرسال «رسالة مفتوحة» إلى ملك السعودية، عبد الله بن عبد العزيز، عبّروا له فيها عن دعمهم «باعتزاز بالغ» «لجهوده المخلصة تجاه حماية شعب سوريا ووقف آلة القتل». أصبح العاهل السعودي، بقدرة قادر، في نظر هؤلاء حامي حمى الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي!
اليوم، وقد امتدت وقائع الانتفاضة الشعبية في سوريا لتشمل جميع المحافظات والمدن السوريّة تقريباً، وبعدما أمعن النظام السوري في حلّه الأمني إلى الحد الذي ما عاد بالإمكان تبريره؛ آن الأوان للقوى والأحزاب العربية المقاومة والداعمة للمقاومة، أن تقوم بعملية مراجعة لجملة مواقفها من الانتفاضة. إنّ التعامي عن حقيقة ما يحصل على الأرض لم يعد مقبولاً.
الرواية الرسمية للأحداث تصبح، يوماً بعد يوم، متهافتة وضعيفة، والمشاهد المُسربة من داخل سوريا والمنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي وموقع «يوتيوب» وتتناقلها وسائل الإعلام العالمية لا تكذب. بل حتى تلك التي ينقلها الإعلام الرسمي السوري تفضح حقيقة ما يجري، وإن عن غير قصد. إنّ الصورة الحية التي نقلها التلفزيون السوري لساحة العاصي، وسط حماه، بعد خروج الجيش السوري من المدينة، وهي شبه خالية من المارة وحركة السيارات، بعدما كانت تعج يومياً بعشرات الآلاف من المعتصمين؛ وقعها في النفس أكثر رعباً.
لا شك أنّ هناك مؤامرات تحاك ضد سوريا، وثبت كذلك أنّ هناك جماعات مسلحة تعمل ضد النظام. لكن، بالمقابل لا يمكن رؤية العنف المضاد الذي قوبل به عنف النظام إلا كأفعال متطرفة لا تعبر عن الانتفاضة السلمية العظيمة لقطاعات واسعة من الشعب السوري التواق إلى الحرية وللكرامة. ذاك العنف هو بالتأكيد على هامش حركة الجماهير، لا في قلبها. ولو كان العمل المسلح والعنف هما المظهر الأساسي للأحداث كما يروّج النظام، للتمكن من إخماد الاحتجاجات منذ الأسابيع، وحتى الأيام الأولى.
كان يمكن قبول المواقف المحايدة لبعض قوى المقاومة في الأشهر الأولى للأحداث، وحتى تفهّم ـــــ لا قبول ـــــ انحياز بعضها إلى جانب النظام في مرحلة ما. لكنّها اليوم، إن لم تقم بمراجعة تلك المواقف وتعيد النظر في حساباتها، إنما تضع رصيدها الأغلى وهو تأييد وثقة الجماهير العربية ـــــ الداعمة بغالبيتها لانتفاضة الشعب السوري ـــــ على المحك. لقد وَجدت قوى المقاومة نفسها تائهة في زمن الثورات الشعبية التي نقلت الواقع العربي بسرعة الضوء من نقطة إلى نقطة أخرى، متجاوزة في طريقها كل القوى السياسية التقليدية. حتى التقدمية منها أصبحت تجاهد لتكون على مستوى مطالب الشعوب، لا «متخلفة» عنها. على تلك القوى أن تعي دورها التاريخي في هذا الزمن المُتسارِع. إنّ وجودها إلى جانب الشعوب المنتفضة، لا بل في قلبها، يمكن أن يقي من الانتكاسات التي قد تحدث نتيجة المؤامرات الحقيقية هذه المرة. مؤامرات يحيكها المتربصون بالثورات في الغرب، وأذنابه في منطقتنا، لإحباط الروح الثورية المتأججة التي سكنت قلوب العرب من المحيط إلى الخليج، ومن ثم تطويع الواقع الجديد الذي فرضته إرادة الجماهير ليسير في الركب الأميركي من جديد.
المطلوب اليوم من قوى المقاومة اتخاذ موقف واضح إلى جانب المطالب المشروعة للشعب السوري، ذُخرها الحقيقي في سوريا. إنّ من شأن موقف من هذا النوع أن يخلق حاضناً عربياً قومياً مقاوماً للانتفاضة الشعبية السورية، وإنهاء الوضع الشاذ الذي تخلو فيه الساحة لمن هم على شاكلة سعد الحريري وياسر عبد ربه.
إنّ وقوف قوى المقاومة إلى جانب الشعب السوري في مطالبته بالتغيير الديموقراطي في البلاد، من شأنه أن يعرّي دعاة الحل الأمني في النظام، الذين يرفضون أن يروا في انتفاضة الشعب السوري إلا مؤامرة تستهدف موقف سوريا الممانع. عندما تتخذ قوى المقاومة مثل ذلك الموقف، تستطيع حينها، بما تمتلك من صدقية وقبول، أن تشكل جسراً بين الإصلاحيين داخل النظام وقيادة الجماهير المنتفضة، لإجراء حوار جاد وعميق، حوار يوفر مخاضاً آمناً لولادة سوريا جديدة، ديموقراطية وحرة، ستحافظ على موقعها الداعم للمقاومة، لا بل ستنتقل بالتأكيد إلى موقع الممارس للمقاومة، بمفهومها الضيق والواسع، بعيداً عن أشباح الحرب الأهلية والتقسيم.
* كاتب وباحث فلسطيني
9 تعليق
التعليقات
-
والله نحنا ما سقطناوالله نحنا ما سقطنا لنراجع راجع إنتا
-
مؤامرة قبل كل شيئحضرة كاتب المقال! ما حصل في سوريا ربما بدآ كانتفاضة شعيية، ولكن القوى الخارجية المعادية للشعوب العربية سارعت فورآ إلى سرقتها وتجييرها لصالحها هي لكي لا تتكرر التجربتان التونسية والمصرية الحضاريتان واللتان تعتبران أول تهديد جدي للمصالح الصهيونية والغربية في العالم العربي! إنها، على العكس تمامآ، الثورة المضادة بهدف ضمان تحول غير ديوقراطي في سوريا!
-
ما بتحرز الواحد يفوت بنقاشوالله هيدا رأيك وإنتا حر فيه بس للي أكيد إنو قيادات المقاومة منها ناطرة جنابك لتقلها "شو لازم تعمل"، وبتعرف منيح على أي أساس عم تتصرف ومن المؤكد إنو معلوماتن المخابرتية والأرضية تفوق ما تعرفه أنت بآلاف المرات وبفتكر إنو السيد نصرالله ما حكي مرة، حكي 3 مرات وبالتفصيل . إذا حضرتك مش حابب تسمع مظبوط، هاي مشكلتك
-
مقال واقعي و موضوعي.على كلمقال واقعي و موضوعي. على كل من يظن نفسه بالع الموس أن يخرجه، ولو أن ذلك مؤلم، حتى يتحرروا من القيد الذي فرضوه على أنفسهم. لم يعد بالإمكان تجاهل ما يحدث.
-
يا عبدالله يا جابان ودي جيشك عا تيرانهذا هتاف ردا على الهتاف الذي أطلقته جموع "جماعة" أبو عباس في رام الله. و الغريب أننا لم نشاهد "جموع" جماعة أبو العبس تخرج مستنكرة عندما كانت غزة تقصف بأطنان القنابل,!! يرجع ذلك بالتأكيد ل"حكمة أبو العبس" طبعا في التمايز عن الغزاويين. المقاومة في لبنان و كل عربي حر و شريف مع الإصلاح و نيل الشعوب حقوقها. و هنا المفصل مع إصلاح النظام التدريجي و المتسارع لا إسقاط النظام و الذهاب نحو المجهول على أفضل تقدير بوجود هذا الكم من السلاح (و الذي طنشت ذكره أستاذ شاهين) و هذا الحقن الطائفي المذهبي المكتسب عبر محطات الفتن الفضائية منذ سنوات. ولم تتحدث عن الدعم المالي الخارجي. بالله عليك,أن تشاهد أحد أفلام "الثورة" و التي يصورون بها الشهداء, و كيف تتهاوى الهواتف النقالة لتصويره و تحريكه و تقليبه و كأنه "مادة للعرض" دون أدنى إحترام لحرمة الجثمان. حسنا قام واحد أو إثنين بالتصوير فاليباشر الآخرون بإنقاذه إن كان مازال حيا, هل يوجد في قلوبهم رحمة أكثر من قلوب من يدعون ظلمهم؟؟ و أخيرا مافي داعي لبيروت نحنا كبرنا التابوت شو قصدن يا تورى؟ عم يردوا على التصريح الحكيم للبطريارك الراعي !
-
لا خير فبما تدعمه أمريكاتقرير منحاز إلى حد ما, للتحركات في سوريا. و تصحيحا لمعلوماتك أخي الكاتب. إن المظاهرات التي تتحدث عنها "في جميع محافظات سوريا" تقوم بها مجموعات محدودة من نازحي حما و حمص ,الذين لم يعودوا لديارهم خوفا من الإعتقال لتورطهم بتنظيم التنسيقيات و هم مع عائلاتهم و بعض السوريين المقيمين في السعودية.
-
لقد برهنت جميع القوى الازاريةلقد برهنت جميع القوى الازارية في لبنان أنهم يتقنون الازدواجية. فعندما تكون الثورات حسب مقاسهم، يهللون ويطبلون.أما إذا لم تكن الثورات حسب مقاسهم، فيدفنون رؤوسهم في الرمل كالنعامة.
-
لحظة صمتمممممم .. لحظة لفكر شوي بحديثك .. لأ غير مقبول من ما زال لا يشكك بحملة إعلامية عالمية مهولة تأسست منذ البدء على الفبركة والتزوير( لا وبل يصدقها حتى بعد ضرب مصداقية أخبارها مئات المرات، لعلك لم تشاهد غسان بن جدو عندما أقر بالغرف السوداء داخل الفضائيات العربية)، والذي كان ينكشف في معظم الأحيان، وبالقتل الوحشي الذي بدأ في نصف الشهر الأول يا أستاذ شاهين، الأول، (وما زلت أذكر عدد قتلى الأمن ، 5)، لا يمكننا أن نوافق على تحليله أنا أتفق تماماً مع موقف المقاومة اللبنانية أما موقف المقاومة الفلسطينية، فهو (وفي هذا الوقت بالتحديد)، إنتهازياً يا أستاذ شاهين، وليس شجاعاً على الإطلاق