ومع أن الانتصار قد يبدو محدود النطاق والتأثير، إلا أنه اكتسب قيمة رمزية عالية بحكم أن تورينو هي أول جامعة إيطالية تقدِم بالفعل على وقف شكل من أشكال التعاون مع الجامعات الإسرائيلية نتيجةً للحرب على غزة، ما دفع عدة جهات يهودية وصهيونية في إيطاليا إلى الإعراب عن قلقها من الخطوة، واتهام الجامعة بالاستسلام للمشاعر المعادية للسامية. وعلّقت رئيسة اتحاد الجاليات اليهودية الإيطالية، نويمي دي سيغني، قائلةً إن قلقها يتعاظم بسبب تفشّي مشاعر العداء لليهود في الجامعات الإيطالية، حاثةً رئيسة الوزراء ورؤساء الجامعات على «ضمان تنفيذ تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة في شأن معاداة السامية بشكل كامل ودقيق من قِبَل جميع الجامعات الإيطالية، ما يجعل من الجليّ كون كل أشكال المقاطعة والشيطنة لإسرائيل هي معاداة للسامية».
كان طلاب الجامعات الإيطالية سبّاقين إلى تنفيذ الاحتجاجات واحتلال مباني الإدارات الجامعية للمطالبة بوقف حرب غزة
وحاول رئيس جامعة تورينو، ستيفانو جيونا، التقليل من أهمية القرار، مشيراً إلى أنه لا يعني مقاطعة لإسرائيل، وليس مدفوعاً بالعداء للسامية، مؤكداً أن التعاون بين الجامعة والأكاديميين الإسرائيليين سيستمرّ وفق اتفاقات التعاون ذات الصلة، ومن دون تغيير. على أن جامعات إيطالية أخرى حذت حذو تورينو، وتتالت القرارات بإسقاط مبادرة الخارجية الإيطالية، في مدرسة المعلّمين العليا المرموقة في بيزا، وكذلك في جامعة «باري»، قبل أن ينجح طلاب جامعة «فيديريكو الثاني» في نابولي (جنوب) في تحقيق انتصار مدوّ، عندما أعلن رئيس الجامعة، ماتيو لوريتو، أمام أكثر من 500 طالب وباحث احتلّوا مبنى مكتبه، أنه سيحقّق المطالب التي تظاهروا من أجلها لعدة أشهر، متعهّداً بالاستقالة من مؤسسة «ميد أور» التي تأسّست بمبادرة من شركة «ليوناردو»، أكبر شركات إنتاج الأسلحة في الجمهورية، وتمتلك الدولة الإيطالية حوالى ثلثها، وتتعاون بشكل حثيث مع الحكومة والجيش الإسرائيليَّيْن، وأيضاً إلغاء الاتفاقات القائمة حالياً بين «فيديريكو الثاني» ومختلف الجامعات الإسرائيلية.
وكان طلاب الجامعات الإيطالية سبّاقين - قبل رفاقهم الأميركيين - إلى تنفيذ الاحتجاجات واحتلال مباني الإدارات الجامعية للمطالبة بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لكنهم قرّروا بعد مشاورات بين المنظّمات الشبابية واتحادات الطلاب تركيز الجهود خلال الشهرَين الماضيَين على الضغط في اتّجاه تعليق المؤسسات الأكاديمية مشاركتها في مبادرة وزارة الخارجية في شأن التعاون مع جامعات الدولة العبرية، وتجميد العمل بالاتفاقات القائمة بالفعل، ووقف التعامل مع الشركات الإيطالية والأجنبية المتواطئة في الإبادة الجماعية، وإلغاء ترتيبات تبادل الأساتذة والباحثين والطلاب بين روما وتل أبيب. وقد لقيت جهودهم دعماً من أكثر من ألفي محاضر جامعي وباحث إيطالي كانوا بعثوا برسالة مفتوحة إلى وزير الخارجية، أنطونيو تاجاني، في شباط الماضي، حذّروا فيها من أن الاتفاق بين إيطاليا وإسرائيل وفق مبادرة وزارة الخارجية الإيطالية، يتضمّن بالضرورة تمويل الدولة الإيطالية لمشاريع ذات «استخدام مزدوج» بينما تستمرّ الحرب على غزة.
ومن المعلوم أن كبرى الجامعات الإسرائيلية، مثل جامعة تل أبيب، والجامعة العبرية في القدس، وجامعة «بار إيلان» أقامت مبانيها على أرض فلسطينية مسروقة أو داخل مستوطنات استعمارية في الضفة الغربية، وهي تلعب أدواراً فاعلة في إطار النظام الإسرائيلي، إذ تشجّع الشبان والشابات على الالتحاق بالجيش، وتقدّم مزايا لمن يخدم منهم فعلاً - مثلاً، تموّل كلية الفنون التطبيقية منحاً دراسية سنوية مجزية للطلاب العرب الذين يقرّرون الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي لقمع إخوانهم الفلسطينيين -، وتساعدهم على إدارة حياتهم الأكاديمية بعد العودة من الخدمة، فضلاً عن تعاونها البحثي والتقني مع الشركات الإسرائيلية والغربية المنتجة للأسلحة، وتقنيات الإبادة والقمع.
ولم تُثر دماء 35 ألف شهيد في غزة، النخبة الحاكمة في إيطاليا، لكنها استشرست في الدفاع عن الكيان العبري بعد انطلاق التظاهرات الطالبية في جامعات البلاد، وسعى كثيرون، ومنهم جيوفانباتيستا فازولاري، مستشار ميلوني وسكرتير حكومتها، إلى التقليل من خطورة التعاون الأكاديمي مع إسرائيل توازياً مع محاولة تلطيخ سمعة الطلبة المحتجين، والتلويح للإيطاليين بأجواء «سنوات الرصاص»، عندما غرقت البلاد في عنف مسلّح بين اليسار وجنود النظام الفاشي. وهي المواقف نفسها التي تبنّتها بحذافيرها الصحف الإيطالية الكبرى على تنوع ألوانها السياسية، فيما يقاوم الأكاديميون الإداريون كل مطالبة بمقاطعة الجامعات العبرية بوصفها إمّا «لا إنسانية»، أو «لا تساعد على تحقيق سلام عادل ومستمرّ»، على رغم أنهم أنفسهم ينفّذون ما يرقى إلى مقاطعة ثقافية شاملة (لا أكاديمية فقط) لكلّ ما هو روسي، بما في ذلك أعمال الكتّاب والملحنين، مثل دوستويفسكي وتشايكوفسكي، اللذين توفّيا قبل وقت طويل من ولادة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.