غزة | بينما يوسّع جيش الاحتلال عمليته البرية في مدينة رفح، اضطر نحو 800 ألف نازح، حتى اللحظة، إلى مغادرة المدينة التي آوتهم طوال الأشهر السبعة الماضية، والبحث عن مكان آخر يلجأون إليه رفقة عائلاتهم. وفي ظل تجاهل الاحتلال للمطالبات الدولية بتوفير بديل لنحو مليون ونصف مليون إنسان، قبل البدء الفعلي للعملية البرية، انطلق الاجتياح والقصف المدفعي، وسط مطالبات للأهالي بالخروج إلى المجهول. وامتلأت منطقة مواصي خانيونس، وهي أرض بور وجرداء محاذية لشاطئ البحر الغربي للقطاع، بآلاف الخيم العشوائية، فيما صار الحصول حتى على بضعة أمتار من الأرض للمكوث عليها حلماً يُبذل من أجله مجهود، ويحتاج إلى دفع مبالغ مالية كبيرة، لا يمتلكها النازحون الذين أتت أشهر الحرب الطويلة على كل ما كانوا يمتلكونه من أموال ومصاغ نساء.«ما حدث أن الناس دُفعوا إلى المجهول»، يقول أبو نسيم صالحة، وهو كهل مسؤول عن عائلة ممتدة تتكون من 16 فرداً، كان قد نزح من مدينة بيت لاهيا في الشهر الثاني من الحرب. ويضيف الرجل، في حديثه إلى «الأخبار»: «وجدنا أنفسنا مضطرين لحمل خيمتنا وفراشنا وكل ما أسسناه واشتريناه خلال أشهر الحرب التي استقررنا فيها هنا، والبحث عن مكان نعيد فيه نصب الخيمة»، لافتاً إلى أن «المسألة ليست سهلة، بوسعنا أن نقطع الطريق من رفح إلى النصيرات أو دير البلح مشياً على الأقدام، لكن توفير دابة أو سيارة لنقل الخيمة والأغراض، يتطلب مبلغ 1500 شيكل، أي راتب موظف حكومي كامل». ويتابع: «مكثنا في منطقة خربة العدس بالقرب من دوار العودة، أي في المنطقة الحمراء التي صنّفها جيش العدو على أنها منطقة قتال خطيرة أسبوعاً كاملاً، تحت القذائف، لأننا لا نمتلك المال لنقل أغراضنا، ولما تدبّرنا أمرنا بمساعدة أهل الخير، رحلنا إلى دير البلح، فلم نجد أرضاً نقيم عليها خيمتنا، وها نحن نبيت أيامنا في الشارع حرفياً».
ثلثا سكان القطاع محشورون في مساحة ضيقة من الأرض، لا يجدون مأوى، ولا فراشاً، ولا طعاماً


والواقع أن حال «أبو نسيم» لا يختلف كثيراً عن آخرين؛ فهو واحد من بين الآلاف الذين لم يرأف بحالهم أحد. وفي هذا السياق، يقول مصدر في «لجنة الطوارئ الحكومية»، إن «الأزمة أكبر من طاقة أي فريق خيري أو جمعية أو مؤسسة محلية أو حكومية». ويتابع في حديثه إلى «الأخبار»: «في يوم وليلة، وجدنا ثلثي سكان القطاع محشورين في مساحة ضيقة من الأرض، لا يجدون مأوى، ولا فراشاً، ولا طعاماً»، لافتاً إلى أن «الناس هنا يدفعون مبالغَ كبيرة للحصول على خيمة و50 متراً من الأرض للإقامة عليها، تكفيهم للسفر لأداء العمرة أو قضاء شهر سياحة في مدينة شرم الشيخ». وفي المناطق الشرقية لمدينة دير البلح، حيث تسكن عائلة أبو نبيل حرز، يغرق النازحون في ظلام دامس، ويعيشون وسط مناطق حرجية مليئة بالكلاب الضالة والأفاعي. يقول الرجل: «نحن نسكن في غابة. ينام الأطفال في الليل، ويتناوب الشباب على حراستهم من الأفاعي والقوارض والعقارب والكلاب الضالة. لا كهرباء هنا ولا ماء. نحن نسكن في منطقة خارج نطاق العالم الحديث».
أما بالقرب من جسر وادي غزة، فيقطع المئات من الشبان طريقاً طويلة، ويقضون ساعات النهار عند أقرب نقطة مع مدينة غزة، التي تفصل بينهم وبينها حواجز «نتساريم» المستحدثة. كريم ماهر، وهو واحد من هؤلاء الذين يقضون ساعات نهارهم يومياً في هذا المكان، يقول لـ«الأخبار»: «أصبحت العودة إلى مخيم جباليا حلماً. نريد العودة إليه. لا ندري إن كان منزلنا قائماً على أعمدته أو هُدم، نريد العودة فقط». ويضيف: «إذا كان قدرنا في عام 2024 أن نسكن الخيمة، كما سكنها أجدادنا قبل 70 عاماً، فلنسكنها في المكان الذي فيه عشنا وتربينا، على ركام المنزل، وسط الأهل والجيران، فلتنته هذه الحرب وهذه الغربة القاسية، ولنعش على أي حال كانت».