من لم يقرأ في كتب التاريخ عن «محاكم التفتيش» الكنسية التي أضحت تعبيراً عن كل محاولات الاستبداد وقمع الحريات في الأنظمة الديكتاتورية في أوروبا وأميركا اللاتينية؟في الآونة الأخيرة، بدا أن الأحزاب والقوى المسيحية تحنّ الى تلك الحقبة السوداء، وتعيد جرثومة القمع التي التقطت عدواها قوى مسيحية في المراحل الأخيرة، الى ذاكرة المسيحيين الشعارات التي مارست هذه القوى سياستها على قاعدتها طوال سنوات الحرب والتسعينيّات، وبدأت تطاول الأحزاب نفسها كما كلّ من يعارضها الرأي داخلها وخارجها.
هذه الأحزاب والتيارات السياسية التي بنت تاريخها على «النضال» وعلى مقاومة كل «احتلال»، قبل التسعينيّات وخلالها وبعدها، باتت تمارس سياستها المحلية على قاعدة التمثل بالأنظمة القريبة التي ناهضتها، في نموذج فاقع تقدّمه بعدما وصلت الى البرلمان كأكبر قوى مسيحية ممثلّة للمسيحيين. ورغم أن هذه السياسة القديمة عمرها من عمر صعود هذه الأحزاب في مجتمع خنقته الحرب العسكرية وبعدها الحروب الداخلية، ثم النظام السوري، ولاحقاً الانقسامات الداخلية المتنوعة، ظلّت هناك مساحة للتعبير عن الاختلاف، سياسياً وفنياً وثقافياً، رغم أنه كان يوجد دائماً من يبرّر لتلك السياسة أهدافها السياسية والعسكرية، سواء كانت صادرة عن حزب الكتائب أو القوات أو تيار المردة أو لاحقاً الحالة العونية التي فرضها حينها العماد ميشال عون، وأصبحت التيار الوطني الحر.
إلا أن هذه السياسة تعود اليوم، وإن من دون سلاح، ولو لم تكن هذه الأحزاب قابضة على السلطة وتمثّل حكماً قائماً بذاته. إذ بدأت سياسة تعميم التخوين على كلّ من يعارض القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وليس نموذج الحملة التي يتعرّض لها النائب السابق فارس سعيد وحدها مثالاً، كونه سياسياً مسيحياً يغرّد خارج سرب ما تريده القوات، رغم كل ما قدّمه لقرنة شهوان و14 آذار وللقوات التي دافع عنها عند اضطهادها. ويُسأل عن ذلك قواتيّون بالفطرة وبالعمل، خلال الحرب وبعدها، ومنهم ضباط وسياسيون سابقون كانوا لصيقين بالقوات، أو حاليّون يلتزمون الصمت وعدم النقاش داخل الحزب الواحد. ويُسأل كذلك سياسيّو مرحلة انحسار نفوذ القوات الذين ساهموا من خلال قرنة شهوان في إعادة إطلاق المسيحيين معارضتهم للوجود السوري وإعادة انتظام العمل السياسي ليس في «بيروت الشرقية» فحسب، وغابوا عن المشهد السياسي العام. ويُسأل من خارج القوات الرئيس فؤاد السنيورة أو أيّ سياسي مسيحي من زمن معارضة الوجود السوري ومرحلة 14 آذار، اعتبر في محطات أساسية أنّ هناك أخطاءً ترتكب في السياسة العامة وفي العلاقات بين القوى السياسية على قاعدة الندّ للندّ وليس على قاعدة تتويج القوات زعامة مطلقة.
تتنافس القوات والتيار الوطني الحر في القبض على الرأي الآخر لإسكاته


تتنافس القوات والتيار الوطني الحر في القبض على الرأي الآخر لإسكاته. يرفض التيار أيّ رأي داخل المجتمع المسيحي لا يتوافق معه في كل صغيرة وكبيرة، من السدود الى خطة الكهرباء الى الانتخابات البلدية الى قانون الانتخاب ورئاسة الجمهورية. وفي موازاة ذلك، يخوض حملة تصفيات داخلية بدأت منذ سنوات، وتستمر بإيقاعات مختلفة. وهي ليست عبارة عن نظام داخلي ومحاكمات مبنيّة على قواعد إدارية، بل باختصار إبعاد كل من يخالف رأي القيادة الحزبية. والمشكلة دوماً أن هناك داخل التيار من كان يبرّر الإجراءات، قبل أن تصل إليه، سواء كانوا نواباً أو مسؤولين أو مناصرين، في إطار لعبة سياسية أبعد من الديموقراطية التي يقول التيار إنه يمارسها داخل مؤسساته التنظيمية والنيابية والوزارية. يقبض التيار على الحزب قبل أن يصل الى قصر بعبدا، وبعدما أصبح خارجه صار «التطهير» نموذجاً في العمل الحزبي.
هذه الأحزاب نفسها تبني قياداتُها أمجادَها على التغنّي بالديموقراطية وبالحضارة الغربية وبالثقافة القائمة على احترام الآخر وآرائه والاعتراف بحقّ الاختلاف، حتى في السجال الذي استفحل في شأن تقديم الساعة، هي نفسها التي تقدّم اليوم نموذجاً لجميع الباحثين عن بدائل للأنظمة الشمولية. صار النقاش ممنوعاً في «المجتمع المسيحي»، وصار أيّ رأيٍ مخالف لتوجهات أكبر قوّتين مسيحيّتين يعدّ خيانة عظمى، وهو أمر يتعدّى الأحزاب ليطاول شخصيات تقدّم نفسها على أنها رائدة نيابية مستقلة وطامحة في الوسط المسيحي. والمشكلة الكبرى أن هذه القوى، بإلغائها فكرة النقاش داخلها، تحوّل مناصريها الى مجرد أصوات وأدوات تنفيذية، فلا تفرز لاحقاً مفكّرين أو سياسيّين محنّكين ومثقفين، بل مجرد نواب ووزراء ومديرين عامين، كنموذج فاقع للفراغ في القيادة المسيحية العاجزة عن تقبّل أيّ رأي آخر، لأنها وحدها تملك الحقيقة المطلقة.