بعد لقاء إردوغان بترامب في اليابان، بدت مهمة تخطي «الفيتو» الأميركي على شراء «إس 400» أكثر سهولة مما ظهر في السنوات الأخيرة. إذ تناسى الرئيس الأميركي تهديداته بفرض عقوبات على أنقرة إن هي مضت في الصفقة، عازياً الأزمة إلى سلوك إدارة سلفه باراك أوباما «غير العادل» من خلال عرقلته صفقة «باتريوت». تهدئة ترامب المفاجئة عشية إتمام الصفقة برّدت الأجواء المشحونة بين أنقرة وواشنطن، والتي وصلت إلى حد التلويح الأميركي بفرض العقوبات، لكنها لم تنه الأزمة كما أظهرت أمس مواقف البنتاغون المتمسك بالرد عبر تجميد الاتفاقيات المتعلقة بطائرات «أف 35»، بما فيها برنامج التدريب، فضلاً عن تسليم الطائرات. تخيير أنقرة بين «إس 400» و«أف 35» سبق تصريحات أمس، وعبرت عنه واشنطن بصراحة في أكثر من مناسبة، إلا أن الموقف التركي بقي مصراً على التمسك بالمنظومة الروسية، ولو على حساب الصفقة الضخمة من الطائرات الأميركية الأكثر تطوراً (تتضمن الصفقة 100 طائرة «أف 35» بقيمة 9 مليارات دولار).
تناسى ترامب أثناء لقائه إردوغان في اليابان تهديداته بفرض عقوبات على أنقرة
لا شك أن عملية الربط الأميركية بين طائراتها والصواريخ الروسية لا تقف عند حدود توجيه طعنة لـ«الأطلسي» عبر اللجوء إلى السلاح الروسي، وهي ترتبط إلى جانب البعد الاستراتيجي للمسافة بين موسكو وواشنطن، بملفين أمنيين في شرق المتوسط: قبرص وإسرائيل. تخشى واشنطن حقيقة أن «إس 400» قادر على إسقاط «أف 35»، وفي ذلك ضربة قاصمة لتفوق تل أبيب التي باتت تملك هذه الطائرات، وتحوز الأولوية الأميركية، على الرغم من أن الأتراك اقترحوا تشكيل مجموعة عمل فنية يمكن أن تضم «الناتو» لبحث المخاوف الأميركية على الطائرة. واللافت هنا أن اليونان، وهي دولة «أطلسية» أيضاً ولا تجمعها علاقات جيدة مع تركيا، تمتلك النسخة الأقدم من المنظومة الروسية، أي «إس 300».
في قبرص، وربطاً اليونان، التوتر في الأسابيع الأخيرة بلغ ذروته على خلفية ملف التنقيب عن الغاز، علماً بأن قبرص التي تضم قاعدتين بريطانيتين بدأت تدخل في تقارب أمني كبير مع إسرائيل بموازاة التحالف في ملف الغاز المنافس لتركيا. في هذا الإطار، تجدر العودة إلى تصريحات المسؤول في الخارجية الأميركية، ماثيو بالمر، الشهر الماضي، حين طالب أنقرة بـ«وقف عمليات التنقيب قرب قبرص»، وقال: «قبرص حليف استراتيجي لأميركا التي تولي شرق الأبيض المتوسط أهمية كبيرة، ولأميركا 10 سفن حربية و130 طائرة مقاتلة في المنطقة». لكن قبل أيام فقط، أعلنت تركيا إرسال سفينة ثانية (تحمل اسم «ياووز») للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية، في خطوة استفزازية لقبرص والأوروبيين. وبدأ الأتراك إظهار ارتياحهم من انعكاس امتلاك المنظومة الروسية على ملف شرق المتوسط كضمانة في حال تدهور الأوضاع هناك في إطار الصراع على الغاز والحدود والوجود في المياه، وهو ما أخذ حيزاً من تعليقات الخبراء الأتراك أمس على تسلّم «إس 400» في ظل التطورات في البحر الأبيض المتوسط.
يبقى أن البعد الأكثر حساسية، والذي يعني موسكو وواشنطن و«الناتو» وكذلك الملف السوري، هو تأثير إتمام الصفقة على مستوى العلاقات التركية الروسية. وفق متابعين للشأن التركي، فإن إردوغان لا يزال في مربع محاولة اللعب على التناقضات الإقليمية والدولية، ومعركة «اس 400» واحدة من أبرز هذه المناورات التي تسمح بالابتزاز والمقايضة من دون تموضع استراتيجي جديد. لكن، على رغم هذه القراءة، فإن السؤال الذي يطرحه كثيرون، وتزايد منذ محاولة الانقلاب العسكري في تموز 2016 (اللافت أن التسليم أتى عشية الذكرى الثالثة للانقلاب)، هو حول وجود رؤية لدى إردوغان وفريقه تقضي بالانزياح عن الغرب بما يصب في حساب موسكو الراغبة بدورها في احتواء أنقرة واجتذابها إلى صفّها مقابل «الناتو». 60% من احتياجات تركيا من الغاز تستوردها الأخيرة من روسيا، التي لديها 6 ملايين سائح من مواطنيها سنوياً في تركيا، حيث تشيد مفاعلاً نووياً في مرسين تقدر قيمته بـ 20 مليار دولار. فوق ذلك، لن تقف العلاقات بين البلدين عند «إس 400»، إذ إن الشراكة تتشابك بصورة أعمق مع مدّ خط «السيل التركي» للنفط والغاز الطبيعي من تحت البحر الأسود نحو تركيا فأوروبا، بما يحرّر موسكو من ارتهانها لخط أوكرانيا.