وفي الحقيقة، فإن أداء كلا الرجلين في المناظرة كان متحفظاً، حيث تجنّب كوربن طرح قضايا شخصية محرجة للرئيس الذي يعاني من فضائح جنسية ومالية، وبدا كعادته رمادياً في الموقف من مسألة «بريكست» التي يحاول جونسون تسويقها دائماً على أنها القضية الأهم في الانتخابات المقبلة. من جهته، تحوّل جونسون إلى مادة سخرية بين الحاضرين في الاستوديو، عندما أجاب عن سؤال حول أهمية قول الحقيقة، وهو المعروف شعبياً بسجلّه الحافل بالكذب على الناخبين. لكن رجحان كفّة كوربن في المناظرة يمكن تفسيره بتوجّهات الناخبين حول موضوعات النقاش؛ إذ قدّم الزعيم «العمّالي» الانتخابات المقبلة كفرصة لتصحيح مسار تراجعي عام في حياة أكثرية البريطانيين خلال عقد كامل من حكم «المحافظين» منذ الأزمة المالية في عام 2008، وما ترتب عليها من سياسات تقشّف قاسية، متعهّداً بتبنّي سياسات اقتصادية واجتماعية جذرية لإعادة الحيوية إلى المجتمع. وكشف كوربن عن وثيقة حكومية تم الحصول عليها من خلال قانون حرية المعلومات، تشير إلى تورّط الحكومة البريطانية - التي يهيمن عليها حزب «المحافظين» - في مفاوضات متقدمة حول بيع قطاع الصحة العام في البلاد إلى رأس المال الأميركي الخاص، وهو أمر يثير مخاوف واسعة في أوساط الطبقة الوسطى قبل الطبقة العاملة. في المقابل، فإن كلّ رسائل جونسون إلى الناخبين تمحورت حول الانتهاء من «بريكست» بأيّ شكل، ومن ثم الشروع في بناء توجّهات اقتصادية واجتماعية جديدة للمملكة المتحدة بعيداً عن أنفاس بروكسيل الضاغطة، واتهام كوربن وحزبه بلعب دور المعطّل للإرادة الشعبية المعبَّر عنها في نتيجة استفتاء 2016.
القطاعات الشعبية المؤيدة لكوربن تمتاز تاريخياً بقلّة إقبالها على الإدلاء بأصواتها لحظة الحقيقة
أصداء تفوّق كوربن في المناظرة التلفزيونية لم تتردّد في أنحاء الجزيرة البريطانية (ولا سيما منها الأقاليم الطرفية في أدنبرة وبلفاست(فحسب)، بل وسُمعت في بروكسيل وباريس ودبلن وبالأخصّ برلين، وكذلك في واشنطن على الجانب الآخر من الأطلسي. الأوروبيون، الذين يراقبون تقلّبات الأوضاع في لندن مع اقتراب انتهاء مهلة التوصّل إلى اتفاق في شأن بريكست (نهاية كانون الثاني/ يناير المقبل)، ليسوا بالطبع من هواة دعم الاشتراكيين لتولّي الحكومات، خاصة في الدول المؤثرة في اتحادهم، لكنهم بالتأكيد سيكونون في حال أفضل لو خرج اليمين البريطاني من السلطة في هذه الفترة، وأمكن التفاهم مع كوربن المعتدل على نسخة مخفّفة من «بريكست» - إن لم يكن إلغاءه كلياً -، على نحو يضمن استعادة الجزيرة المشاغبة من أيدي الأميركيين. في المقابل، لا تخفي الإدارة الأميركية الحالية اعتراضها على تولّي كوربن مقاليد السلطة في بريطانيا، ولا شك في أن أخبار المناظرة لم تكن سارّة للرئيس دونالد ترامب شخصياً. وليس سرّاً أن السفارة الأميركية تبذل ضغوطاً هائلة على اليمين البريطاني للتوحّد وراء جونسون، الذي سيظهر ترامب لشدّ أزره في زيارة إلى المملكة قبل موعد الانتخابات بأيام. وبالفعل، أعلن رئيس حزب «بريكست» (الذي اكتسح انتخابات البرلمان الأوروبي في نسختها البريطانية (أيار/ مايو الماضي)، نايجل فاراج، سحب مرشّحيه من المناطق التي يسيطر عليها تقليدياً «المحافظون»، وتركيز ثقل الحزب بدلاً من ذلك على المناطق ذات التوجهات «العمّالية»، بهدف وحيد معلن هو إسقاط كوربن. كما أظهرت المقابلات الأخيرة التي أجرتها زعيمة «الليبراليين الأحرار»، جو سوينسون، أن حزبها سينحاز في نهاية المطاف إلى المحافظين. وهناك أيضاً تردّد واضح لدى حزب «الخضر» الصغير في دعم «العمّال» خلال هذه المرحلة، ناهيك بالطبع عن التيار اليميني داخل حزب «العمّال» ذاته، والذين يقوده رئيس الوزراء السابق توني بلير، ويفضّل جونسون على رئيس حزبه ذي التوجهات اليسارية.
كوربن، على رغم شعبيته الجارفة وتفوقه على جونسون في المناظرة التلفزيونية الأولى وتململ الناخبين البريطانيين من سياسات خصمه، تبقى احتمالات وصوله إلى السلطة غير محسومة، ليس بسبب «الفيتو» الأميركي، أو تحالف اليمين ضدّه، بل بالنظر إلى أن القطاعات الشعبية المؤيدة له - الطبقة العاملة، الشباب، المسلمين والأقلّيات - تمتاز تاريخياً بقلّة إقبالها على الإدلاء بأصواتها لحظة الحقيقة. وإذا لم تخالف تلك القطاعات عادتها في هذه المرة الحاسمة، وأقبلت بكثافة على صناديق الاقتراع، فإن تحالف اليمين والقصر والكنيسة والجيش وسفارات واشنطن وتل أبيب والرياض و«السيتي» (حيّ المال والأعمال في لندن) سينجح في التمديد لجونسون، مع ما يعنيه ذلك من خروج محتّم للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والتوجه استراتيجياً في الاقتصاد - بعد السياسة – نحو الارتماء في الحضن الأميركي، ودائماً على حساب مكتسبات الطبقة العاملة وحقوقها ومصالحها.