الغرب و«فرسان يوم الدينونة الثلاثة»
الحروب والمجاعات والأوبئة كانت، بحسب تعبير الاقتصادي البريطاني توماس مالتوس، في عصر ما قبل الثورة الصناعية، «فرسان يوم الدينونة الثلاثة»، التي منعت أكثر ما يخشاه، وهو التزايد الكبير في عدد سكان الكوكب وما قد يستتبعه من تداعيات على استقرار الأنظمة السياسية. ما لم يلتفت اليه مالتوس هو دور التوسّع الاستعماري في «خلاص» المجتمعات الغربية من «الفائض البشري»، أي من قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية الفقيرة، هاجرت نحو المستعمرات بحثاً عن «حياة أفضل» على حساب سكّانها الأصليين. يقول المؤرخ بول كينيدي، في كتابه المهمّ «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» الصادر عام 1993، بأنه لولا التوسّع الاستعماري، وما سمح به من انتقال لقسم من الديموغرافيا الأوروبية نحو القارّات التي تمّ «اكتشافها»، لتَحقّقت نبوءات ماركس، ولانفجرت ثورات اشتراكية في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من بلدان القارة العجوز.
ليست الصين مَن اعتمد سياسة نكب دول بأسرها عن طريق تنظيم المجاعات والنشر المتعمّد لأوبئة
لا حاجة إلى التذكير بعمليات إبادة السكان الأصليين في القارة الأميركية، شمالها ووسطها وجنوبها، وفي أستراليا ونيوزيلاندا، على سبيل المثال لا الحصر. قد يكون إنعاش ذاكرة بعض المتغرّبين مفيداً حول الأساليب التي استخدمتها المستوطنة البيضاء الكبرى، الولايات المتحدة، لإبادة السكان الأصليين، بالإضافة إلى المذابح الهائلة والمروّعة التي ارتكبتها بحقهم. منذ القرن الثامن عشر، أصبح اللجوء إلى نشر الأوبئة أسلوباً رائجاً في عملية الإبادة المذكورة. ففي عام 1763، قام الجنرال البريطاني، جيفري أمهيرست، قائد القوات البريطانية في القارة الشمالية، بعد اقتراح من مرتزق سويسري يعمل معه، هو هنري بوكيه، بإعطاء الأمر بتوزيع أغطية ملوّثة بفيروس الجدري على مخيمات السكان الأصليين، ما تسبّب بموت أعداد هائلة منهم. لم تكن مناعة هؤلاء تستطيع مقاومة فيروسات الجدري والتيفوئيد والإنفلونزا والطاعون والحصبة وغيرها من الفيروسات التي تستطيع مناعة الرجل الأبيض مقاومتها. استُخدمت هذه الفيروسات في سياق عملية الإبادة المشار إليها، والتي يعتقد المؤرخ روبرت أوكونيل في كتابه «عن الأسلحة والرجال» أنها سابقة في تاريخ الحرب البيولوجية. مفكر ومؤرخ آخر، هو مايك دايفيس، يُظهر في مؤلفه المرجعي، «عمليات إبادة استوائية»، وهو عنوان نسخته المترجمة إلى الفرنسية، كيف قامت بريطانيا بتنظيم مجاعات في الهند في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أدّت إلى موت الملايين. هيروشيما وناغازاكي، فيتنام والنابالم والعامل البرتقالي، العراق واليورانيوم المنضب... لائحة طويلة جداً من حروب شنّتها الولايات المتحدة، ولا تزال آثارها راهنة بالنسبة إلى شعوب هذه البلدان التي ارتفعت فيها نسبة الإصابة بمرض السرطان بشكل استثنائي، وتحوّلت فيها كلّ عملية ولادة، بحسب بيان لمنظمة «أصوات في البرية»، إلى لحظة يسود فيها الرعب بدلاً من الفرحة، كما في بقية العالم، نتيجة للخشية من أن يكون المولود مشوّهاً. ولا بدّ من الإشارة إلى أن مهندسي عمليات الإبادة المشار إليها، كأمهيرست وونستون تشيرشيل في بريطانيا، والجنرال أنطوان دو سان أرنو في فرنسا، والملك البلجيكي ليوبولد، على سبيل المثال لا الحصر، لا يزالون يُعتبرون رموزاً وطنية في بلدانهم.