الحكومة حين تُحبنا
لكل نظام بصمته في التعامل مع شعبه. وقد تتشابه الانظمة في ذلك، لكن حديثنا هنا عن اميركا. علاقة النظام بالشعب مثيرة فعلاً، فهي تتوطد وتصل الى اعلى ذروة الوئام في حالتين: عند اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وإبان التحشيد للحرب. قبيل الانتخابات، ترى المرشح يغوص في كل تفاصيل شعبه. تشاهده ملمّاً بجزئيات كل الأعراق التي تشكل نسيج هذا الوطن، فتارة يخاطب محاضراً عن حاجات السود في مناطقهم المهمشة، وتارة اخرى تراه على اطلاع تام على أحوال الآسيويين في مختلف الولايات، يكتب معلقات عن الجاليات العربية واللاتينية ويَعِدهم بتغييرات جذرية تحفظ حقوقهم وتساوي في ما بينهم. يرتب جلسات تبادل ثقافي مع من هم من أصول أفريقية، ويتذوق مأكولات الجاليات اللاتينية والهندية والآسيوية، ويَعد بوظائف وتأمين طبي للجميع. يدخل دور عبادة كل المؤمنين من كل الاديان، يرتدي «ألوسة» وياماكا وحجاباً إذا اضطره الأمر. يستمع إلى الشعب، يركع ليداعب اطفال الشعب، يقرأ لهم القصص، يُصبح كنبيّ بينهم. ينقصه أن يمسح على رؤوسهم ويشفيهم.
هذا النظام يتصرّف كمن لا يملك سوى مطرقة فيرى كل مشكلة مسماراً
الملاطفة الأخرى التي يحصل عليها الشعب هي في حالة التحشيد لحرب. هنا تعود عبارة «نحن الشعب» لتهيمن على خطاب الرئيس، وبعض تصريحات اعضاء الكونغرس، ومقابلات ممثلي الحكومة. يصبح الشعب هذا الطفل المدلل الذي تجهد الحكومة لنيل دعمه المعنوي وإقناعه بأن هذه الحرب تُخاض لأجله. إنه ترك بلده الأم وأتى الى هنا لأنه مؤمن بأنها أرض الحضارة والحرية والعدالة، وهذه الحرب هي التي ستحفظ له كل هذه المُثل التي هاجر لأجلها. شهدتُ ذلك جلياً إبّان التعبئة لحرب العراق الثانية. حينها كنت ما زلت طالبة جامعية. صحيح أن بعض الاصوات كانت لا تريد الحرب واتُّهِمت بالخيانة، لكن طاولات التطوع في الجيش كانت تملأ الجامعات والثانويات تحت راية «نحن الشعب، يجب أن نحمي بلادنا»، «انضمّ الآن وادرس لاحقاً». نعبّر، رفيقتي الايطالية وأنا، عن كرهنا لغسل الدماغ الذي يمارس علينا «نحن الشعب»، ممازحين انه في حال فرض التجنيد الاجباري على أولادنا يوماً ما، فسنضع طاولة مواجهة لطاولة التعبئة العامة ونتبرع بقطع خناصر الشباب الذين بلغوا السن القانونية للتجنيد. فالمتعارف عليه ان من لديه تشوه خلقي يُعفى من «الجندية». ونجزم بأن الامهات سيشكرننا وأن دور الانتظار جنب طاولتنا سيكون أكثر ازدحاماً من دور طاولة التعبئة. فقد يستطيع المرء العيش من دون خنصر، لكن الازمات النفسية التي تسببها له ويلات الحرب والقتل تظل تطارد وجدانه كل العمر... وفي ذلك امثلة كثيرة عن جنود انتحروا أو أطلقوا الرصاص على جيرانهم أو أقدموا على مجزرة بحق ازواجهم واولادهم بسبب تأثيرات الحرب النفسية عليهم.
الواقع
نحن ذاتنا الشعب من يراد إرضاء خاطرنا قبيل الانتخابات او الحرب، نُصبح «انتم الشعب» ويُعتدى علينا من قبل اسلاك النظام. نصبح هدفاً للرئيس والحاكم والعمدة واصغر «بوليسي» في النظام، في حال قررنا ان نقول «نريد تغييراً». وما يجري الآن في شوراع المدن الاميركية خير دليل على كيف يعامل الشعب في حال انتفض. أجل هي ذاتها هذه الأميركا التي تقف محاضرة عبر سفاراتها في عواصم العالم عن أحقية الشعوب في تقرير مصيرها، تقف اليوم على رقاب شعبها وتخنقه كما وقفت بالامس على جثث شعوب الدول التي استضعفتها. تتحول هذه الملاطفة بين الشعب والنظام الى معركة بين المستضعَف والمستكبِر. ويبدأ النظام بممارسة كل خبراته في القمع التي ابتكرها او تدرب عليها هنا وهناك، ممزوجة بعنصرية وطبقية وفوقية. كأن النظام يريد ان يقول لنا أنتم شعبي، وجنودي، أديركم كيفما شئت، واذا قررتم الاعتراض فسأفلت الشرطة ورصاصها المطاطي وعبواتي الغازية وكلابي عليكم. واذا لم ترتدعوا، فجيش بلادكم سأصوبه عليكم.
تخيل ان تتطوع في الجيش لتحمي بلدك فيُبعث بك الى الحي الذي تربيت فيه لتُرعب أهلك ورفاقك لانهم يطالبون بالعدالة والعيش المحترم. تخيّلي ان تمضي حياتك في قراءة مارتن لوثر كينغ مؤمنةً بأن الطريق الصحيح لارساء العدالة الاجتماعية هو عبر التظاهر السلمي، فيصبح لديك حلم شبيه بحلم كينغ، وتنوين تحقيقه، فتخرجين الى الشارع بكل سلمية، فقط لتستيقظي على سرير في مستشفى مع ارتجاجات في الدماغ، لأن شرطياً ما لديه حلم ايضاً، لكن مع امكانيات اهم من امكانياتك، وقرر رميك ارضاً وممارسة عنجهيته عليكِ وانت تتظاهرين سلمياً. أو أن تكون صحافياً مع خوذة مكتوب عليها «صحافي»، وسترة مكتوب عليها «صحافة»، ويمرّ الشرطي جنبك محطماً كاميرتك ومشبعاً إياك ضرباً مبرحاً لأنه لا يريدك نقل مشهد هجومه ورفاقه على المتظاهرين حين اراد الرئيس ان يتمشى ويتصور جنب «كنيسة الرؤساء»، ليري العالم أنه قوي ومتماسك. تصور أنك شاب ترتدي كمامة وتخاطر بامكانية الاصابة بالكورونا لانك تريد المطالبة بالعدالة، فيأتي شرطي بكل بساطة يزيل الكمامة عن وجهك ويرش انفك وفمك بمسيل للدموع، لأنك تصرخ من وراء كمامة «لا عدالة لا سلام». تصور أن تنشر المدينة التي أنت فيها قناصين على اسطح الابنية لتصيدك انت والمتظاهرين بالرصاص المطاطي وان تقتحم صفوفكم سيارات الشرطة لتدهسكم.
لا داعي للتصور. فبحسب أسوشييتد برس، ارتفع عدد الاعتقالات من جراء الاحداث الاخيرة في الولايات المتحدة الى ٩٣٠٠ شخص. هذا كله واكثر حدث في أسبوع واحد، امام اعين الكاميرات والتلفونات والبث الحي من دون خجل او رأفة. هذا النظام يتصرف كمن لا يملك سوى مطرقة، فيرى كل مشكلة مسماراً.
أما ذاك الذي يخبركم بأن ترامب الجمهوري هو السبب، فذكّروه بقمع التظاهرات الذي جرى على إثر أحداث كاليفورنيا ١٩٩٢ التي اشتعلت بعد اعتداء مجموعة شرطيين بيض على الشاب الاسود رودني كينغ. وقعت هذه الجريمة التي صورها احدهم في ولاية ديمقراطية تحت اشراف العمدة توماس برادلي الديمقراطي الاسود. ثم ذكِّروه بحادثة امادو ديالو الاسود عام ١٩٩٩ الذي اطلقت عليه مجموعة من الشرطة ٤١ رصاصة أصابته ١٩ منها جنب شقته في عهد بيل كلينتون الديمقراطي، وذلك لانه أخرج محفظته ليظهر هويته، فانهال افراد الشرطة عليه بالرصاص من كل حدب وصوب، معتقدين أنها مسدس. انتشرت حينها احتجاجات مرددة «هي محفظة وليست مسدس». ذكّروه بكيف سحل اوباما، الرئيس الديمقراطي، متظاهري «وول ستريت» عام ٢٠١١، وكيف انه لم يستطع على مدى ثماني سنوات من الحكم إحداث أي إصلاح في شبكة الـ«بوليس» التي كانت ولا تزال تمارس التنميط العنصري في تعاملها معنا «نحن الشعب». ثم اخبروه عن ايريك غارنير الذي قتل خنقاً عام ٢٠١٤ بين يدي شرطي وهو يقول «لا أستطيع التنفس». جريمته أنه كان يبيع بعض السجائر، وذلك في عهد عمدة نيويورك الديمقراطي بيل دي بلازيو. ثم أخبروه عن جورج فلويد الذي مات تحت ركبة شرطي ابيض في عهد جايكوب، فراي العمدة الديمقراطي، من اجل ٢٠ دولاراً.
وهنا نتساءل مع كل هذا العنف: لماذا الاصرار على التظاهرات السلمية؟ كيف يكون المرء صادقاً حين يقف امام انعدام العدالة ولا يغضب؟ لماذا الاصرار على الركوع بصمت في الساحات والاكتفاء بتداول مجرد صورة سوداء للتعبير عن الرفض عبر وسائل التنصل الاجتماعي؟ لعل أبرز من تناول مسألة العنف هو العظيم مالكوم اكس حين قال: «من الاجرام أن لا تُعلم المرء كيفية الدفاع عن نفسه عندما يكون هو الضحية المستمرة للهجمات الوحشية».
المسألة ليست مسألة جمهوري أو ديمقراطي، فهذه منظومة أثرية شغالة يأتي المسؤول ليؤدي دوره فيها. لا أحد يريد خوض غمار التغيير والمخاطرة بوظيفته وتقاعده من اجل ضحية هنا او هناك. و«نحن الشعب»، كل ما نعتقد اننا نملكه هو حق التظاهر والتصويت، وقد سُلب الاول منا في الأيام الأخيرة، ولا ندري اذا سيُسمح لنا بالاحتفاظ بالآخر.
«نحن الشعب» من يُسحق بعضنا في الطرقات اليوم نعرف أنه بعد أشهر عديدة، حين يقترب موعد الانتخابات، ستأتي ميلانيا ترامب لتقرأ قصة لأطفالنا متقرّبةً منهم، وقد تُجلس ابنةَ جورج فلويد نفسها على ركبتها للتعطف عليها امام الجماهير. ونعرف ان جيل بايدن التي لم نسمع لها تصريحاً واحداً منذ بدء الاحتجاجات، ستُطِل علينا لتخبرنا عن أحقيتنا في الاجهاض والمثلية والحريات والمساواة والعدالة. نعرف أن النظام بشقيه، الديمقراطي والجمهوري، تلذذ بقمعنا بكل الطرق القانونية المتاحة وهي كثيرة. هذا دستور كالحرباء، يأخذ أي لون يريد. لكن صار واضحاً أن هذا النظام العظيم لم يستطع النجاح في إدارة ازمتنا الصحية اثناء محنة الكورونا، كما انه فشل في حماية أمننا عبر التوفيق بين أحقية الناس في التظاهر وحماية الاملاك العامة والخاصة من المخربين، فلجأ الى قمع الشعب والاعلام والمنظمات والمجموعات التي هُدِّد بعضها بالإدراج على لائحة الارهاب لمجرد أنها اعترضت على نظام الشرطة العنصري.
«نحن الشعب»، في الواقع شعوب، واميركا لم تكن منقسمة يوماً كما هي منقسمة الآن. تتأكد لاحقاً أن «نحن الشعب»، العبارة التي «تترأس» أول صفحة من الدستور، هي مجرد عبارة محفورة على مقعد في مكتبة أو عمود في متحف او مطبوعة على لاصقة ممغنطة يضعها سائح على براد في مطبخه في بلدٍ ما، مزهواً بها.