ما إن انتهت الثنائية القطبية حتى انطلقت الحملة الأيديولوجية - السياسية لـ»إعادة التفكير بالشرق الأوسط»
قد تكون أبرز سمة في الوضع الدولي الجديد بالنسبة لمنطقتنا، كما أسلفنا، هو تراجع السيطرة الأميركية، وغياب أي قوة دولية مرشّحة للحلول في مكانها. بكلام آخر، يشبه هذا الوضع بأوجه كثيرة، ذلك الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من ضعف لقوى الاستعمار القديم الفرنسي والبريطاني، وتمكّن شعوب المستعمرات وأشباه المستعمرات من انتزاع استقلالها عنه، خلال نافذة فرص تاريخية امتدّت من أواسط أربعينيات القرن الماضي إلى بدايات ستّينياته، قبل أن تعزّز الولايات المتحدة موقعها كإمبراطورية عالمية. خلال هذه الحقبة، استقلّت الهند والصين ومصر، واندلعت حروب التحرير الوطنية المظفّرة في الهند الصينية والجزائر، وغيرها من بلدان الجنوب. لكن مع بداية الستّينيات، انتقلت الولايات المتحدة إلى الهجوم لبسط سيطرتها على بلدان الجنوب المتحرّرة حديثاً، واستطاعت إسقاط العديد من أنظمتها الوطنية، كما حصل في الكونغو وإندونيسيا وتشيلي، ودعم الأنظمة التي ارتضت الانصياع لهيمنتها. غير أنّ التغييرات البنيوية العميقة في توزّع القوة الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية على الصعيد العالمي في العقدين الماضيين، أنتجت موازين قوى إجمالية تحول دون تمكّن الولايات المتحدة من الاستمرار بممارسة الهيمنة الشاملة على مستوى الكوكب. مواجهة الصعود الصيني، وما يتطلّبه من تعبئة للموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية والفكرية، يجبرها على إعادة جدولة أجندتها على قاعدة هذه الأولوية، مع ما تعنيه من تراجع في مركزية الشرق الأوسط. وفي الواقع، فإنّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، كتركيا ودول الخليج والكيان الصهيوني، حالهم في هذا حال خصومهم، أدركوا منذ مدة ليست بقصيرة دخول الهيمنة الأميركية في طور الانحدار، والمفاعيل المحتملة بالنسبة لهم. أول مؤشر إلى ذلك، هو اضطرارها للتخلّي عن حلفاء خلّص، كنظامَي بن علي ومبارك، في مواجهة الانتفاضتَين الشعبيتين ضدّهما. أزمة الثقة في العلاقات السعودية - الأميركية، مثلاً، بدأت منذ تلك الفترة. ثاني مؤشر، كان خطاب باراك أوباما عن الاستدارة نحو آسيا، في عام 2012. صحيح أنّ ترامب وفريقه اتّبعا أيضاً سياسة تصعيدية ضدّ الصين، لكنّ الصلات الخاصّة التي جمعتهم بإسرائيل وأنظمة خليجية، طمأنت هؤلاء إلى أنّ الحليف الأميركي يقف بصلابة إلى جانبهم، وبأنّه مستعدّ لخوض الحرب دفاعاً عنهم. ما تثبّته الأحداث المتلاحقة، منذ وصول جو بايدن وفريقه إلى السلطة، هو أنّ العالم انتقل من مرحلة الإعلان عن الاستدارة نحو آسيا إلى مرحلة ترجمتها ميدانياً وتسريعها، إلى درجة سيصبح معها جوار الصين البحري، وربما البرّي في الأشهر والسنوات المقبلة، مركزاً للتوتّرات الدولية. يتوازى مع ما تقدّم، استبعاد للخيار العسكري بوجه إيران، رغم تعثّر المفاوضات النووية معها، حتى الآن، وحديث متواتر عن احتمال المزيد من التخفيض لعديد القوات الأميركية الموجودة في سوريا والعراق. أما أطراف محور المقاومة، وعلى الرغم من الأكلاف الهائلة البشرية والمادية للحروب المباشرة والهجينة التي شُنّت ضدها، فهي ماضية في تطوير قدراتها العسكرية والصاروخية، كمّاً ونوعاً، وفي توثيق عرى التحالف في ما بينها ومراكمة الانتصارات والمكاسب، كما حصل خلال معركة «سيف القدس» في فلسطين، ويحصل في اليمن في مواجهة العدوان السعودي. مراجعة مسار الصراعات الدائرة في أكثر من ساحة في المنطقة، تكشف تحوّلاً مستمرّاً في موازين القوى لمصلحة محور المقاومة. لا يؤثّر في واقع هذا التحوّل تكثيف للاستثمارات الإماراتية، وحتى تلك السعودية غير المعلنة، في قطاعات اقتصادية وتكنولوجية إسرائيلية، وشراء لمنظومات سلاح وتعاون أمني، ليس بجديد في الحقيقة. السؤال الفعلي، هو عن مدى استعداد هذه الأنظمة الخليجية للمشاركة في حرب كبرى ومفتوحة مع إيران ومحور المقاومة إلى جانب إسرائيل، كفيلة وحدها، بنظر القادة الصهاينة، بوقف التغيّر المذكور في موازين القوى. ما تكشّف، في الأشهر الماضية، عن التطبيع المتدرّج في العلاقات الإماراتية - الإيرانية، وعن مسعى سعودي للتوصّل إلى تفاهمات مع طهران، يشي بإدراك نظامي البلدين لخطورة الخيارات التي اعتمداها في عهد ترامب، ولضرورة التراجع عنها. استمرار مراكمة وتطوير القدرات العسكرية والصاروخية من قبل محور المقاومة، وتعزيز لحمته في مواجهة الكيان الصهيوني، وما سينجم عنه من انقلاب في موازين القوى، في ظلّ التحوّلات الدولية التي أشرنا إليها، جميعها عوامل ستوفّر الظروف المؤاتية لإعادة صياغة المشرق العربي، وفقاً لمصالح وتطلّعات شعوبه، وبعيداً من مشاريع الإلحاق والهيمنة التي انقضى عهدها وأفل.