يتوقّع المراقبون أن تنعكس نجاة جونسون على شكل حرب تصفيات داخل الحكومة
لقد نجا جونسون - أقلّه مؤقّتاً -، لكن ذلك جاء كتكلفة باهظة سيتحمّلها متضرّرون كثر، أوّلهم هو شخصياً؛ إذ يَصعب وفق سيرة الحزب العريق أن يتعافى سياسيّ من اختبار كهذا، وهو ما أظهرته تجربة سلفه، تيريزا ماي، التي حقّقت في تصويت مماثل نسبة ثقة أفضل من الـ59% التي حصل عليها جونسون، لكنها اضطرت للاستقالة بعد ذلك بستّة أشهر. ومن الجليّ أن هنالك الآن عدداً من النواب المحافظين الذين خرجوا بعداواتهم لجونسون إلى العلن، وعلى رأسهم وزير الصحّة السابق، جريمي هانت، وهؤلاء بحُكم الأمر الواقع سيستمرّون في جهودهم لإبعاده عن المنصب ولو بعد حين. وهم يرون، وفق تصريحات أدلوا بها للصحف ووسائل الإعلام، أن رئيس الحكومة، وإن نفِد بجلده هذه المرّة، فهو الآن كما «رجل ميّت يمشي»، و«في أضعف لحظاته على الإطلاق»، وأن ما جرى «بداية النهاية لمهنة جونسون في السياسة»، وأن «المهرّج يرقص رقصته الأخيرة مثخناً بجراح قاتلة».
كذلك، تضرّرت سمعة الحزب الحاكم، بعدما فشل حتى بالتّظاهر بتقديم مصالح الأمّة على المصلحة الحزبية، وجدّد الثقة بجونسون على رغم الاستياء الشعبي الواسع من الأخير. وهكذا، أعاد المحافظون تأكيد تموضعهم الطبقي التاريخي، كتجمّع للأثرياء وملّاك الأراضي، المتفرّغين لحروب المناصب والنفوذ في ما بينهم، من دون اكتراث بأوضاع بقيّة فئات المواطنين، فيما أثبتت مؤسسة الحزب عقمها وعجزها عن إنتاج شخصيات قيادية بديلة من جونسون، تكون قادرة على حمل مشروع وطني لإنقاذ البلاد، أو تقديم شيء سوى تمرير الوقت لمصلحة المتنفّذين. وهذا سيجعل التجديد للمحافظين في الانتخابات العامة المقبلة (كانون الثاني 2025) مهمّة صعبة، ويمنح المعارضة (الليبراليون الديموقراطيون) واليسار (العمل، والخضر وغيرهم) والقوميين (في الأقاليم الخاضعة لحكم لندن) فرصاً لتشكيل - أو المشاركة في تشكيل - حكومة تالية. وينسحب الضرر بشكل عام على مجمل اليمين البريطاني، سياسياً وفكرياً وجماهيرياً، بعدما أصبحت رداءة خياراته الاستراتيجيّة في السياسة والاقتصاد مدعاة لتندّر أنصاره قبل الآخرين، كما الشعب البريطاني بعمومه (سواءً الإنجليز أو بقيّة الشعوب في اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية)، حتى أن هنالك حديثاً من بين أوساط مثقفي اليمين عن ضرورة إنقاذ البلد من عقد ميت ثانٍ بعد العقد الماضي (تولّى المحافظون تشكيل الحكومات منذ 2010 من دون انقطاع). أمّا المتضرّر الأكبر من عبث النخبة الحاكمة، فهو غالبيّة الشعب البريطاني الذي كان يطمح إلى أن تؤدي سلسلة الفضائح والإخفاقات برئيس الحكومة إلى الاستقالة والدعوة إلى انتخابات عامّة جديدة كما كان يليق بشخصية وطنيّة أن تفعل. لكن سياسيّي حزب المحافظين لن يفعلوا، وستبقى البلاد رهينتهم لثلاثين شهراً مقبلة، إذ لا يمكن دستورياً إبعادهم عن السلطة قبل انتهاء الدورة الحاليّة للبرلمان في كانون الثاني 2025، بفضل الغالبيّة المطلقة التي يتمتعون بها (389 من أصل 650 مقعداً).
ويتوقّع المراقبون أن تنعكس نجاة جونسون على شكل حرب تصفيات داخل الحكومة، للتخلّص من مناوئيه وربّما إجراء تعديل حكومي قريب. كما ستمنحه جرعة ثقة لمزيد من التصلّب في مواجهته التالية مع الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق حول الحدود الإيرلنديّة في إطار «بريكست»، والذي تريد الحكومة البريطانية التراجع عن بعض التعهّدات فيه، بينما تعتبر بروكسل ذلك إخلالاً بمعاهدة دولية. ومع ذلك، ومهما تظاهر جونسون بالقوّة، واعتبار اختبار الثقة «فرصة لرسم خطّ تحت ما جرى والتركيز على المسائل الهامة» - وفق تصريح من مكتبه صباح أمس -، فهو سيظلّ في دائرة النار، ليس من جهة أصدقائه الأعداء في الحزب فحسب، إذ تُحقّق لجنة خاصة في ما إذا كان كرئيس الوزراء قد كذب على نوّاب البرلمان، ويمكن أن تصدر استنتاجاتها في أيّ وقت، كما ستجرى انتخابات فرعية هذا الشهر لملء مقعدَين شاغرين في منطقتَين كانتا تاريخياً معاقل لحزب المحافظين، وستكون خسارتهما - شبه المؤكدة الآن لمصلحة المعارضة - بمثابة تصويت شعبي ضدّ كلّ ما يمثّله المحافظون ورئيسهم في وقتنا الراهن.