ربما يكون الانسحاب الأميركي المتهافت من فييتنام عام 1973، أبرز محطّات سياسات كيسنجر
وربما يكون الانسحاب الأميركي المتهافت من فييتنام عام 1973، حيث قُتل ما بين مليونين ونصف مليون وثلاثة ملايين شخص، أبرز محطّات سياسات كيسنجر، فيما اتضح لاحقاً، في حين إماطة اللثام عن وثاق سريّة، أن مجازر أبعد من حدود فييتنام ترتّبت على هذا الانسحاب، ولا سيما في كمبوديا المجاورة. فعلى رغم أنه تمّ توثيق القصف الكثيف أو «السجادي» لكمبوديا بين عامَي 1969 و1973 بشكل «جيّد نسبياً»، إلا أنّ حفنة من الوثائق السرية التي نشرها موقع «ذي إنترسبت» لمناسبة العيد المئة لمهندس هذا القصف، كشفت أن كيسنجر يتحمّل مسؤولية عنف ودمار أكبر بكثير ممّا تمّ توثيقه تاريخيّاً. ففي إحدى ليالي كانون الأول من عام 1970، يوثّق اتّصالٌ جرى بين الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، غضب الأوّل وإبلاغه الثاني بأنه يريد أن تتحرّك سفن الهليكوبتر، والطائرات الحربية و«كل ما يمكن أن يطير» فوراً، والدخول إلى كمبوديا وقصف «كلّ شيء»، وفق ما دوّنته إحدى مساعدِات كيسنجر. وبعدها بخمس دقائق، اتّصل كيسنجر بمساعده العسكري، الجنرال ألكسندر هيغ، لينقل إليه أمر قصف كمبوديا بلا هوادة، قائلاً: «إنه أمر، ويجب تنفيذه. أطلق أيّ شيء يطير على أيّ شيء يتحرّك. مفهوم؟».
يستند التحقيق الذي أجراه «إنترسبت»، على أرشيف حصري من الوثائق العسكرية الأميركية السرية ومقابلات مع السكان الكمبوديين، ليقدّم أدلّة على هجمات أميركية لم يتمّ الإبلاغ عنها سابقاً، أسفرت عن مقتل مئات المدنيين الكمبوديين أو إصابتهم خلال فترة وجود كيسنجر في البيت الأبيض. أدلّةٌ عن أعداد ضحايا لا تزال تقريباً غير معروفة لدى الشعب الأميركي أو غيره، وعن عشرات التفجيرات والغارات التي ظلّت مُخفاةً أيضاً، إلى درجة أن السكّان الذين قابلهم مُعدّ التحقيق هناك، تفاجأوا بأن مواطناً أميركيّاً «يعرف شيئاً عن قصّتهم». وتكشف هذه المقابلات مع أكثر من 75 شاهداً وناجياً كمبودياً تفاصيل الصدمة التي يعاني منها الناجون، بعدما اتّضح أن الهجمات التي ارتكبتها الولايات المتحدة «أكثر فظاعة» من العنف الذي يُنسب أصلاً إلى سياسات كيسنجر، إذ لم يتمّ قصف القرى الكمبودية فحسب، بل تمشيطها وحرقها ونهبها ونهب ممتلكات سكانها من قِبَل القوات الأميركية والقوات الحليفة لها.
واللافت أيضاً، أن كيسنجر استطاع، على مدى عقود من الزمن، التهرّب من الإجابة على الأسئلة المتعلّقة بقصف كمبوديا، وقضى «نصف حياته يكذّب في شأن دوره في عمليات القتل هناك». وفي عام 1973، خلال جلسات استماع في مجلس الشيوخ لتثبيت تعيينه وزيراً للخارجية، سُئل كيسنجر عمّا إذا كان يوافق على الإبقاء على سريّة الهجمات على كمبوديا، فبدأ بتبرير هذه الاعتداءات بشتّى الحجج، زاعماً بأنّ ما حصل لم يكن «قصفاً على كمبوديا، بل كان استهدافاً لفييتناميين شماليين هناك». على أيّ حال، تعارضت أدلة السجلّات العسكرية الأميركية وشهادات شهود عيانٍ بشكل مباشر مع هذا الادّعاء، قبل أن يدحضه، في وقت لاحق، كيسنجر نفسه.
بعد مضيّ عقود، لا يزال الناجون من تلك الهجمات الفظيعة غير مدركين تماماً سبب تعرّضهم لمثل هذا الهجوم، وتشويه العديد من أحبائهم وقتلهم. وبحسب الكاتب، سيكون من الصعب على هؤلاء تصوُّر أن معاناتهم ترجع في جزء كبير منها إلى رجل يُدعى هنري كيسنجر، ومخطّطاته الفاشلة الهادفة إلى تحقيق «النهاية المشرّفة للحرب في فييتنام» التي وعد بها رئيسه، وذلك من خلال توسيع الصراع وإطالة أمده. فبالنسبة إلى نيكسون وكيسنجر، كانت كمبوديا عرضاً جانبيّاً يهدف إلى تشتيت الانتباه عن فشل الولايات المتحدة في فييتنام.
تكشف الملفات العسكرية، والمقابلات التي أجراها الموقع مع الناجين الكمبوديين والعسكريين الأميركيين والمقرّبين من كيسنجر والخبراء، أن الإفلات من العقاب - مرّة جديدة -، لم يقتصر على البيت الأبيض، بل شمل الجنود الأميركيين الذين تواجدوا على الأرض، إذ لم يتمّ فرض أيّ عقوبات تُذكر على القوات المتورّطة في قتل المدنيين وتشويههم. وعلى رغم ذلك، يتساءل الخبراء، مع إماطة اللثام عن هذه المعطيات، عن إمكانية إعادة تفعيل الجهود التي طال انتظارها لمحاسبة كيسنجر بتهمة ارتكاب «جرائم الحرب». إلّا أن هذا الأخير، ولدى سؤاله عن هذه المعلومات، يردّ «بسخرية» على الموقع، رافضاً الإدلاء بأيّ تعليق.