تعليقاً على الحرب الدائرة في أوكرانيا، رأى ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية المصنف «كبير العقلاء» في إدارة بايدن، أن هذه الأخيرة «تسببت في مقتل أو جرح 315000 جندي روسي، وبتدمير ثلثي مدرعات هذا الجيش، وبإجهاض عملية تحديث قدراته التي تفاخر بها بوتين وامتدت عقداً كاملاً». ويضيف غراهام أليسون، المؤرخ الأميركي ومسؤول التخطيط الأسبق في البنتاغون، الذي أورد كلام بيرنز في مقال في «ذي ناشيونال إنتريست» بعنوان «ما يدين به الأمريكيون لأوكرانيا»، أن جميع هذه «الإنجازات» تحققت «من دون خسارة حياة أي جندي أميركي، ما سمح بإضعاف تهديد بوتين العسكري للناتو بشكل جدي». أليسون بدوره يعتبر من «العقلاء»، وسبق أن ألّف كتاباً في 2017 بعنوان «محكومون بالحرب؟ كيف تستطيع الولايات المتحدة والصين تجنب فخ توسيديديس»، الغاية منه إقناع صناع القرار الأميركيين باعتماد سياسات أقل عدوانية تجاه بكين لمنع التدحرج نحو صراع مدمر معها. لكن إذا توافرت الإمكانية لخوض حرب مروعة بالوكالة، و«من دون مقتل أي جندي أميركي»، ضد المنافسين الإستراتيجيين في روسيا والصين أو غيرهما، فهذا هو المطلوب! مقال أليسون يندرج في إطار النقاش المستعر حالياً بين النخب الأميركية حول وجاهة المضي في إرسال المساعدات العسكرية الباهظة الكلفة إلى أوكرانيا. وحتى الآن، لم يتم إقرار مساعدات بقيمة 95 مليار دولار، منها 60 لمصلحة أوكرانيا، والبقية لإسرائيل وتايوان، من قبل الكونغرس نتيجة لمعارضة نواب جمهوريين.
تحطم الهجوم الأوكراني المضاد في مواجهة خطوط الدفاع المنيعة لروسيا
يشي الأمر المتقدم بتفكك الإجماع الداخلي الأميركي حول ضرورة الاستمرار في دعم كييف، والذي يتوقع الكثيرون توقفه تماماً في حال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية آخر هذه السنة. ولكن، حتى ولو استمر مثل ذلك الدعم، فإن العجز الأميركي والغربي عن تأمين الكميات الهائلة المطلوبة من الذخائر من قبل الأوكرانيين في سياق حرب استنزاف طويلة وعلى جبهات ممتدة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية والحربين الكورية والعراقية - الإيرانية، هو المعطى المركزي الذي ينبغي التوقف عنده. يعترف المحللون الغربيون بأن هذا العجز هو الذي أفضى إلى هزيمة الهجوم المضاد الأوكراني وبداية التراجع. غير أنهم لا يستفيضون في شرح خلفياته الاقتصادية وفي مقدمتها انحسار القاعدة الصناعية في دول الغرب بفعل انتقالها منذ عقود إلى الاقتصاد «ما بعد الصناعي» الذي تسود قطاعاته المالية والرقمية والخدماتية على حساب الصناعة.
إيمانويل تود، المؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي، تناول في كتاب مهم صادر هذه السنة بعنوان «هزيمة الغرب»، هذه الخلفيات، مؤكداً أن الحروب الطويلة هي المعيار الفعلي لقياس قوة اقتصاد البلدان المنخرطة فيها، أكثر من مؤشرات كالناتج المحلي الإجمالي، وصلابة تلاحمها الاجتماعي الداخلي. خلاصة تود هي أن روسيا، ذات الاقتصاد الصناعي «المتأخر»، والتي لا تواجه نفاداً في الذخائر، والتي تلتفّ غالبية مجتمعها حول النظام «الديموقراطي السلطوي» الذي يقوده بوتين، ستخرج منتصرة من المواجهة الراهنة. غالبية روسية وازنة مقتنعة بأنها في خضم معركة وجودية وبأن مصير بلادها على المحك. لم تعد الحال كذلك في أوكرانيا وفقاً لعدد من التقارير، وآخرها لصحيفة «لوموند» التي حملت طوال السنتين الماضيتين لواء «المقاومة الأوكرانية»، وصدر بعنوان «بعد عامين من النزاع، وحدة البلاد على المحك»، أشار فيه كاتبه توماس ديستريا، إلى شرخ متزايد بين قسم من أبناء الشرق الأوكراني الذين يشكلون غالبية المقاتلين على الجبهة، وأبناء الغرب الذين يسعون إلى النأي بالنفس عن الحرب الدائرة ويهربون من التجنيد. ولا شك في أن الخسائر الفادحة في الأرواح التي تكبدتها القوات الأوكرانية خلال السنة الماضية وفشلها في الميدان هما عاملان حاسمان في إنتاج مثل هذا الشرخ.
هرعت الولايات المتحدة إلى نجدة حليفها الصهيوني بعد عملية «طوفان الأقصى»، ورعت، وما زالت ترعى، سياسياً وعسكرياً، حرب الإبادة التي يشنها على غزة استناداً إلى قناعتهما المشتركة بأن القتل الجماعي والتدمير الشامل والتجويع والتهجير، ستكسر إرادة الشعب الفلسطيني في المقاومة. وبعد سنوات طويلة من تكرار مقولة «عدم التورط في حروب الشرق الأوسط مجدداً» من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة، هي تجد نفسها في صدام مباشر مع المقاومة اليمنية، حيث تخوض حسب تعبير أحد ضباط بحريتها، أكبر معركة بحرية منذ الحرب العالمية الثانية، ومع المقاومة العراقية في العراق وسوريا، إضافة إلى المعركة التي لا تقل أهمية على الجبهة السياسية والديبلوماسية، إذ باتت معزولة تماماً في مجلس الأمن عندما استخدمت للمرة الثالثة الفيتو ضد مشروع قرار جزائري لوقف إطلاق النار في غزة.
كذلك، تشكل مواقف دول الجنوب العالمي الوازنة ومبادراتها، كجنوب أفريقيا التي رفعت دعوى أمام «محكمة العدل الدولية» ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية، وخطاب الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، الذي وجه الاتهامات نفسها إليها، وكذلك كلام ممثل الصين أمام المحكمة حيث أكّد شرعية المقاومة الفلسطينية المسلحة، صفعات سياسية - ديبلوماسية ليس إلى الكيان الصهيوني وحده، بل إلى الولايات المتحدة، الشريكة الكاملة في حرب الإبادة. محرقة غزة أصبحت بنظر شعوب الجنوب وقطاعات لا يستهان بها من شعوب الغرب، هي الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي الذي تتزعمه واشنطن. تمسكها بمفهوم «الريادة الأبدية» (perpetual preeminence) الذي بلورته نخبها السياسية والعسكرية عندما كانت في أوج سكرة الانتصار في بداية التسعينيات، ويدفعها راهناً إلى إشعال الحروب ورعاية القتل الجماعي رغم صيرورتها إمبراطورية هرمة، سيعجّل من انحدارها وانهيارها. الإمبراطوريات محكومة بالموت. هذا أيضاً هو درس من التاريخ.