لا شك أننا نختلف مع الدكتور فارس سعيد كثيراً، لكن هذا لا يمنع البوح بما نتفق معه، والإشادة بالمواقف المستندة إلى المنطق والواقعية التي تُعبّر عن فهم عميق للصيغة اللبنانية.
بالأمس القريب، تسرّب «عفواً» أو عن عمد، مقطع صوتي لسعيّد، ضجّت به وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حمل فيه على القوات اللبنانية، وفصّل أسباب فشل لقاء معراب، وأبرز ما قال فيه، هو احتجاجه على أسلوب القوات ومناصريها الذين لم ينفكّوا يردّدون العبارة -الموضة الجديدة «ما بيشبهونا». والمفارقة أنه لم يقتصر تردادها على المناصرين وحسب، إنما تبنّاها بعض قياداتها، ومنهم من سبق أن تبوّأ مواقع رسمية رفيعة على مستوى وزير أو نائب أو قاضٍ وغير ذلك، بأسلوب استعلائي لا يحترم الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للآخر، ويتعاطى معها بخفّة ورعونة. وهذا ما لا يمت بطبيعة الحال إلى ثقافة المسيحيين بصلة، ولا إلى تعاليم التسامح والحب والإنسانية التي بشّر بها السيد المسيح منذ ما يزيد على ألفي سنة.
هذا أمر يُسجل للنائب السابق، الذي سبق أن كانت له مواقف مماثلة، تصبّ في الاتجاه نفسه، وذلك في موضوع رفضه التقسيم أو الفيدرالية، عندما قدّم مطالعات قيّمة عن هذين الموضوعين في حلقتين متتاليتين من برنامج «صار الوقت» مع مرسال غانم، وخاطب المطالبين بتطبيقها في لبنان بغضب وبصوت عالٍ، ووصفهم بأنهم لا يعرفون ولا يفقهون بحرف واحد من الصيغة اللبنانية، ولا يعرفون أيضاً الواقع الديموغرافي وترابط المناطق اللبنانية، وسأل حينها: هل يمكن للمسيحي أن يعيش في بحبوحة مثلاً، وشريكه المسلم جوعان؟ هل يمكن أن يعيش المسيحي بأمان، وشريكه المسلم يعيش في فوضى وعدم استقرار؟ ليختم: «اللبنانيون شعب واحد وفي حالة تعايش، وليسوا شعوباً في حالة مساكنة كما يعتقد أنصار الفيدرالية».
ومن الجدير ذكره هنا هو أن سعيد، الطبيب أباً عن جد، له تصوّر وفهم للصيغة اللبنانية مغايران لمختلف الأفرقاء المسيحيين، وعلى رأسهم القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، من أصحاب مدرسة تفيد بأن المسيحيين في حالة حرب دائمة مع المسلمين و«البلد لإلنا»، وأن الأخيرين صادروا صلاحيات المسيحيين ومكتسباتهم من خلال اتفاق الطائف عام 1991، و«علينا أن نسترجع حقوقنا»، فيما نائب جبيل السابق يرى في الطائف خلاصاً للبنان، و«ثمة ضرورة للحفاظ عليه وعلى استقلاله وعلى عروبته»، ويزدري القوى السياسية التي ترى أن التعايش بين الطوائف يتوقّف على صلاحيات وحقوق هذه الطائفة أو تلك، وأن المسألة «معركة نفوذ»، حتى وصل بها الأمر إلى تعطيل صدور مرسوم دورة مأموري أحراج بحجة عدم مراعاتها التوازن الطائفي.
ومن الأكيد، يعود فهم هذا الرجل لكينونة لبنان وشعبه، كما جرأته أيضاً، إذ يخاصم ويصالح ويختلف ويتفق في وضح النهار، ولا يخشى لومة لائم، إلى أنه من بيت سياسي عريق، وليس متطفّلاً أو دخيلاً على العمل السياسي في زمنٍ يعجّ بالدخلاء والمتطفّلين. فوالده، الدكتور أنطوان سعيد الشهابي، حارب الإقطاع السياسي وهو في سنّ صغيرة، إذ لم يُعمّر أكثر من 40 سنة، وقارع ريمون إده وحزبه (الكتلة الوطنية) بنديّة، وهزمه في انتخابات 1964، ووالدته نهاد جرمانوس سعيد لم تتوانَ عن مقارعة إده أيضاً، ولم تتنازل عن مقعد زوجها إلا بعد خوض انتخابات 1968 بمواجهة الأخير، وخسرتها بفارق 120 صوتاً فقط أمام أحد أبرز أقطاب الموارنة آنذاك، حيث كانت أصوات شيعة جبيل تصبّ بمجملها لمصلحة بيت سعيد الذي تميّز بالعمل الدائم على حماية العيش الواحد، المسيحي - الشيعي في المنطقة. ويتحسّر اليوم شيعة جبيل على تلك الأيام بعدما أبعدتهم سياسة ابن هذا البيت عن آل سعيد ولو أنه يتحمّل مسؤولية مواقفه حيالهم. وغالباً ما كان يشكو العميد ريمون إده عند كل استحقاق نيابي أن غالبية أصوات شيعة القضاء تصبّ عند خصومه المحليين آل سعيد.
عليه، ليس كثيراً على سعيد عندما يرى اعوجاجاً يمسّ بالوحدة الوطنية، التي لا تحمل التأويل، ولا يمكن اللعب فيها في زواريب السياسات الضيقة، أن يقف في وجه الدكتور سمير جعجع وقواته.
وعدا تميزِ آل سعيد برؤيتهم للبنان، فقد أضاف الأبناء تميّزاً جديداً من خلال تعدّد الأفكار السياسية في البيت الواحد، إذ إن شقيقة سعيد، ماري كلود، تحمل أفكاراً يسارية وتناصر بقوة القضية الفلسطينية، وهذا لم ينعكس سلباً على علاقتها بشقيقها في دلالة على ديموقراطية هذا البيت.
في المحصّلة يبقى أن خلافنا مع سعيّد لن يُفسد في الود قضية، نعيش معاً شركاء على أرض واحدة وفي وطن واحد بُذِلَ ويُبذل لأجله الكثير، وسنبقى معاً مهما اشتدّ الخلاف، وتبقى نقاط الجمع أكثر وأقوى من نقاط القسمة، فلنختلف ولنتخاصم شريطة أن يكون الهدف بناء لبنان واستعادة عافيته، كلّ من زاويته، كما كان الإمام موسى الصدر يردّد على سامعيه من كل الطوائف، «فلنلتقِ على كلمة سواء»!

* كاتب وباحث