تطلب الجدة رفع صوت المذياع وهو يلقي نشرة الأخبار. هي فقدت بصرها قبل فترة، لكنها تُصر على سماع ما يحدث في غزة. يفيد الخبر الأول: «الجيش الإسرائيلي يطلب من سكان شرق رفح إخلاءها فوراً». تشير الجدة: «صار معنا الاشي نفسه أيام البلاد وبالاجتياح». هي تقصد نكبة 1948، واجتياح لبنان 1982. لا تعرف موعد ولادتها تحديداً، لكنها تقول إن اسمها مرتبط بيوم في ذاك التاريخ: «كان الطقس ثلجاً وجبل الشيخ قدام أهلي أبيض فسمّوني ثلجة»، اسم غريب لكنها محبّة الجمال الفطرية.
(ميسرة بارود)

هذه الجدة خاضت كل الحروب الفلسطينية، وأيامها عكس اسمها، تسخر من ذلك: «اسمي ثلجة، وأنا سمرة، وسنيني سودا، بس قلبي أبيض». وكل من يراها يسألها عن الماضي، لكن في بُرهة حزن وابتسامة حضر سؤال المستقبل؛ «غزة لوين يا حجة؟». فجأة، يرتفع صوتها: «منتصرين غصب عن رقبتهم». والاستفسار البديهي: كيف ذلك؟ تؤكد: «طالما في رصاص حننتصر... أيام البلاد لو كان في رصاص ما طلعنا».
■ ■ ■

في زقاق ضيق داخل عين الحلوة، طفل يصارع آخر من دون دماء. تتوسط لحل المشكلة: «شو القصة يا شباب؟»، يجيب الضحية بعفوية: «أخذ الكوفية مني»، «طيب، ولي أخذتها؟»، يجيب: «هو لبِس أبو عبيدة قبل شوي... الآن دوري...». بعد حل المشكلة، تسألهما: «لي بدك تصير أبو عبيدة؟». الإجابة الأولى: «عشان أطفال غزة». الإجابة الثانية: «عشان أضرب نتنياهو».
في خلفية المشهد ملصق على الحائط فيه صورة لياسر عرفات كُتب تحتها: «سيرفع شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهرات فلسطين علم فلسطين فوق أسوار القدس الشريف».
■ ■ ■

لا يُعرف تماماً، إذا كانت الأرض تشعر بأهلها أو تعرف كم من دماء سالت لحمايتها أو استعادتها. لكنّ أهلها يدركون أهميتها، لكن الاحتلال لا يتعامل مع الفلسطينيين كشعب، إنما كمكوّنات متعددة منفصلة. وهذا ما عبّر عنه عامي أيالون، أحد الرؤساء السابقين لجهاز «الشاباك»: «هناك اعتقاد [إسرائيلي] خاطئ يفترض أن الفلسطينيين ليسوا شعباً، وإذا سمحنا لهم بالرفاهية الاقتصادية فإنهم سيتخلون عن حلم الاستقلال. وفي نهاية المطاف، فإن الفلسطينيين شعب. وهم مستعدون للقتال والموت من أجل استقلالهم». وبالتالي، هذا الشعب، على الرغم من تعرّضه لضربات قاتلة منذ ما قبل النكبة حتى «طوفان الأقصى»، لم يرفع الراية البيضاء. وهكذا الأجيال ترث المأساة وكذلك الحلم والبندقية. وإذا ما نظرنا إلى النكبة والنكسة وأحداث الأردن واجتياح لبنان، وصولاً إلى الانتفاضات والهبّات المتلاحقة، نجد أن الاستسلام ليس وارداً في قاموس الشعب.
لا بل إن الانتقال إلى الهجوم في «سيف القدس» 2021، و«طوفان الأقصى» 2023، يشير إلى أن «البُعبع الإسرائيلي» يعاني أكثر، والمشروع الصهيوني يقترب من النهاية. هذا قاله صراحة الرئيس السابق لشعبة الميزانيات في جيش الاحتلال ياروم أرياف، في مؤتمر طارئ للسياسة والاقتصاد والمجتمع في إسرائيل: «نحن نشهد تدمير المشروع الصهيوني. هذا هو تدمير قيمة دولة إسرائيل»، مضيفاً: «لقد تحوّلنا من دولة ناشئة ونموذجيّة، إلى دولة مُصابة بالجذام وقذرة ومنبوذة وفاحشة وخطيرة»، هكذا الدماء الفلسطينية تُنهي مشروعاً مدعوماً غربياً. وإذا كانت الولايات المتحدة ترى في مدمّراتها وإمداداتها طوق نجاة للقاعدة الاستيطانية (إسرائيل)، فهذا لن يحصل.
في أثناء حصار بيروت 1982، جاء السفير السوفياتي ألكسندر سولداتوف، وقال لياسر عرفات: «اخرج من بيروت»، ردّ عرفات: «كيف أخرج؟». أجابه: «اخرج على ظهر المدمّرات الأميركية»، قال عرفات مستغرباً: «أنا ياسر عرفات أخرج على ظهر مدمّرات أميركية؟»، ردّ السفير: «اخرج أنت وكوادرك، المهم المحافظة على الكوادر»، قال عرفات: «والله لو خرجت من هنا لن أطاع، فأنا لست دولة»، قال السفير: «إذاً ستؤخذ أسيراً بالشبكة»، فردّ عرفات: «إن قائداً في مسدسه طلقتان لا يؤخذ أسيراً». هذا ما رواه القائد هاني الحسن. لكن ما يرويه يحيى السنوار، حالياً، أن القتال للمرة الأولى بهذه الكثافة، ولهذه المدة الطويلة على أرض فلسطينية، يعني أن الملحمة لن تنتهي بهزيمة يتخيّلها بنيامين نتنياهو.
■ ■ ■

بالعودة إلى عامي أيالون: بعد شهرين من «طوفان الأقصى» أجرى مقابلة صحافية مع يوسي ميلمان ونُشرت في «هآرتس»، يؤكد أيالون أن «إسرائيل لن تخرج بصورة للنصر من هذه الحرب، حتى لو تمكّنت من اغتيال يحيى السنوار. من يعتقد أن الفلسطينيين سوف يستسلمون، لا يعرف الفلسطينيين... في هذه الحملة لن تكون هناك صورة للنصر، على غرار التلويح بالعلم الأميركي في هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، ولا مشاهد مثل تلويح يوسي بن حنان [الجندي الإسرائيلي] ببندقية كلاشينكوف في قناة السويس نهاية حرب الأيام الستة، ولا حتى مثل صورة ياسر عرفات الذي اضطر للإبحار من مرفأ بيروت إلى تونس بعد حرب لبنان الأولى».
وفي إجابته على «ما سيناريوهات الخروج من الحرب؟» يقول إنه «في الطريق إلى اليوم التالي [ما بعد الحرب] هناك مخرجان، وفي الوقت الحالي نرفض [حكومة إسرائيل] اتخاذ قرار، وبسبب الخلافات التي تمزّق المجتمع الإسرائيلي، لا يفهمون أن عدم اتخاذ قرار هو أيضاً قرار بحد ذاته. أحد طرق الخروج من الحرب، الذي أعتقد أن محصّلته هي إسرائيل يهودية ديموقراطية، ذات أغلبية يهودية. وهذا الطريق طويل، وقد يستمر 40 عاماً، وسيتطلب منا تقديم تنازلات واتفاقات في ما بيننا. وإذا مضينا على هذا النحو، فإن الدول العربية الموقّعة على "مبادرة السلام العربية" وكذلك الديموقراطيات الغربية، ستكون إلى جانبنا. أعتقد أن هذا الطريق يقودنا إلى إسرائيل آمنة ويهودية وديموقراطية. أمّا الطريق الثاني فهو الذي يتبعه من يعتقدون خطأً أن الاحتلال يقود للأمن، وغيرهم ممن يعتقدون أنه لا يحق لنا التنازل عن أي من أرض إسرائيل، حتى لو اقتضى ذلك خوض حرب لا نهاية لها. ومن وجهة نظري، فإن هذا التصور لا يعترف بالواقع. وهو مسار يقود إلى دولة واحدة، في منطقة يعيش فيها حاليا 7 ملايين يهودي و7 ملايين عربي. وهذا واقع سيفقد إسرائيل هويتها اليهودية الديموقراطية ويعيدنا إلى الثورة العربية الكبرى في الثلاثينيات...».
صحيح أن نظرة أيالون فيها ما هو مرتبط بالإقليم وحلفاء الاحتلال، لكن الأساس في كل ما يحصل هو قدرة الفلسطيني على الصمود أولاً وعلى الهجوم ثانياً. وحتى الآن تسير خطة المقاومة على مبدأ استنزاف جيش الاحتلال، وبالتالي لن يستطيع البقاء في غزة. وعلى الرغم من الكلفة البشرية والمادية إلا أن الكلفة الاستراتيجية ستكون أكبر على الاحتلال. يكفي ألا تُرفع الراية البيضاء حتى تُرفع شارة النصر قريباً.