«أنا أموت، إذاً أنا موجود» - عبد الرحيم الشيخ
دائماً ما كان سؤالُ فلسطين، على ضفّة أنصارها، سؤالَ الوجود/الإبادة. من هنا رأى البعض أن أوّل انتصارٍ يسجَّل في المسألة يكون بمجرّد تبنّي «العالم» (اقرأ: الغرب) لهذا السؤال، على اعتبار أنّ الصراع، في شقٍّ مركزيّ منه، هو صراعٌ على «الرواية». والحقيقة أن الصراع تجاوزَ مسألةَ «الرواية» كما كانت عليه عند رفع الحركة الصهيونية للشعار الذي روّجه الكاتب اليهودي الإنكليزي إسرائيل زانغويل: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» (أطلقه القس الأميركي وليام بلاكستون، 1888، وقبله، بعبارات مشابهة، الإنجيلي البريطاني اللورد أنتوني آشلي كوبر، 1839).

لقد تراجعت أهمّية السرديّات التاريخية، على الأقل مذ أطاح «المؤرخون الجدد» في إسرائيل بالتأريخ الرسمي لاستقلال/نكبة 1948، عبر إعادة نشر الخطة «دالِت» ووثائقها، وبالأخص عندما انتهى شيخهم بني موريس إلى خلاصته المكثّفة مطلقة الصراحة: «(كان) لا بدّ من تكسير البيض لإعداد العجة» - في تبرير لضرورة التطهير العرقي لقيام كيان يهودي صرف. وهو مستجدٌّ يوجب منح أولوية على رواية الحدث المؤسس (النكبة) - فضلاً عن مصالح الاستعمار والهيمنة - لمصلحة مقولات وتوظيفات من مثل أيديولوجية «أرض الميعاد» المحرّكة للتواطؤ الغربي مع سياسات الاستيطان والعنصرية وحجج «الضحوية» (Victimhood، كما يسمّيها نورمان فنكلستين). تتجلّى الصفاقةُ الغربية في اعتمادها الصهيونيةَ عند مراجعة مقولة آرثر بلفور: «والصهيونية سواء أكانت محقة أم مخطئة، جيدة أم سيئة، فهي متأصّلة في تقاليد راسخة، وحاجات معاصرة، وآمال مستقبلية لها أهمية أكثر بعداً وعمقاً من رغبات وتعصّبات 700 ألف عربي يعيشون الآن في تلك الأرض العتيقة».
هذا الوضوح الصهيوني في الاعتراف والإقرار برواية النكبة وتداعياتها الحيّة والماثلة والمتناسلة (أو «النكبة المستمرة» وفق تطوير الياس خوري لمصطلح قسطنطين زريق - راجع: «النكبة المستمرة»، دار الآداب 2024)، نعثر له على ديمومة وتجسّد سياسي في موقف اليمين الإسرائيلي الحاكم اليوم، وقد بلغ ذروته في تصويت الكنيست قبل أسابيع على قرار بنيامين نتنياهو رفض قيام دولة فلسطينية. وعليه، هذه أفصح مرحلة لحرب الإبادة حيث الصراع في فلسطين يأخذ شكل تنازع الطرفين الوجودَ كاملاً، أرضاً وهوية، بلا مساحيق التقسيم البائخة.
هي، إذاً، الإبادة المستمرة للوجود الفلسطيني. والإبادة، في تعريفها بالقانون الدولي حسب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، لا تعني، في المناسبة، كما قد يظن البعض، قتلَ جميع السكان على أساس عرقي، إنما يكفي أن تشتمل على أفعال التدمير، كلياً كان أم جزئياً، أكان مادياً أم روحياً، للجماعة، وعليه، فإنّ ضروباً ممّا نسمّيه «المحو» داخلةٌ فيها أو مقدّمةٌ لها.
يُشتمّ من استعجال النقاشات العربية حول النصر والهزيمة - والحرب لمّا تضع أوزارها بعد، وبناء على معيار التضحيات حصراً - تجديد للدعوة إلى اعتناق «خطاب الهزيمة»


تتوسّل الإبادة في الاستعمار الصهيوني فعلَ المحو لأشكال الوجود الفلسطيني وحضوره وحرّيته، كما نراه - على سبيل المثال - في السياسات العمرانية المتعمّدة للإخفاء بالضفة الغربية المحتلة؛ حيث في إمكان المستوطن أن يجول كيلومتراتٍ عدة دونما أن يتعثّر بحضورٍ ما لمئات الآلاف مِن العرب مِن حوله. طيفٌ واسعٌ من السياسات يواجهها الفلسطيني، قائمةٌ في جوهرها على لون واحد من الإرادة الاستعمارية إيّاها: محو وجود المستعمَر كممرٍّ حصري لوجود المستعمِر. نتذكّر هنا مقولة بن غوريون الصريحة أيضاً: «تماماً مثلما لا نعترف بحق الملكية السياسية للعرب في الأرض، لا نعترف أيضاً بحقهم في الملكية الروحية وبأسمائهم». وفي دراستها المعنونة «المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني» (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 96، خريف 2013)، تستعين هنيدة غانم بجذورٍ في التراث الديني لتوصيف «المحو»: لعنة «يماح شمو فزخرو» التي تطلق على الغوييم (الأغيار) والتي تعني «ليُمحَ اسمُه وذكرُه».
لكن، في الأثناء، وإذ نشهد تنازع الوجودين، الإسرائيلي والفلسطيني، وحيث الأخير المراد محوه موجود واقعاً، بشكل أو بآخر، لذا لا تكفي أحياناً سياسات إبادويّةٌ مواربة، كالسيطرة والتحكّم والفصل العنصري، لإزاحة حضوره، ولا سيما حيث يقرّر هذا الفلسطيني تأكيد وجوده أو رفض الخضوع للتغييب والمحو، عندها يحتاج الاحتلال إلى عنف الإبادة العارية - إلى محو الأجساد: الإماتة، السجن، التهجير. وقد سبق واعتبر إدوارد سعيد، في قراءة أدبية، الصراعَ صراعاً على «الحضور والتأويل» (جدليّة «شرعية الحضور والبقاء» الفلسطيني مقابل «لا-شرعية التأويل والغياب»)، وما حصل أنّ الصراع استمرّ على أرض الواقع، إذ إن المحو لم يتحقق بتمامه، لا بل إنّ الفلسطيني نهض ليرفع سقف تحدّيه لمستعمِره إلى أفق «محو المحو».
يلاحظ إسماعيل ناشف (أنظر دراسته: «صور موت الفلسطيني») أنّ الموت الفلسطيني «الفردي الساعي في جماعته» يختصّ بأشكال ثلاثة: «الضحية، والشهيد/الشهيدة، والاستشهادي/الاستشهادية». وفي هذه الأشكال الثلاثة ثمّة مواجهة مع عملية المحو/الإبادة تبدأ نتائجها - في حدها الأدنى - بإعادة تعريف هذا الموت للفلسطيني. نحن هنا، ثم، أمام مقاومة مستمرة أيضاً، أو «مقاومة دائمة» بحسب النبوءة الصادقة لمعين بسيسو عن واقع غزة. ولعل هذا السياق هو ما يخصّص الموتَ الفلسطيني في أن يكون «أكثر كلفةً من غيره» كما يقول الأستاذ منير شفيق.
وفي طبيعة هذه المقاومة يكمن الفارقُ بين تحقّق المحو بالموت والموت كدالّ على محو المحو: أنّ مسألة فلسطين نجحت في أن تفارق مآلات الاستعمار في أميركا الشمالية، لأنّ الموت هنا، بشقّيه المادي والرمزي، لا يعني سوى توكيد الحضور - ينقلب تثبيتاً للوجود طالما أنه يجري مجرى مقاومة صنوف المحو. رسّخ الفلسطيني ذلك في ثورته في 1965 وطوفانه في 7 أكتوبر 2023 وما بينهما من محطات متّصلة، على نحو صعّب على العالم تجاهلَ وجوده (ما كان، من دون هذه المقاومة، زخمٌ أو أثرٌ يذكر للتأريخ والتوثيق).
لم تنجح حرب السابع من أكتوبر في مواجهة الإبادة الصهيونية المستمرة على الأرض وللأصلانيين فحسب، بل هي استطاعت، هذه المرة، أن تهزّ، عبر الاستقطاب الحاد، الأخطبوطَ الصهيوني المتمدّد في صروح المعرفة والثقافة والسياسة والإعلام على الساحة العالمية. لا بل إنها، بتظهير الانقسامات اليهودية حول العالم، نجحت في مواجهة «محو اليهود»، إذا ما استعرنا عبارة الزميل ربيع بركات (في الإمكان اعتبار «محو اليهود» سابقاً على ممارسات اليوم ضد اليهود المناهضين للصهيونية أو أن الأخيرة استمرارٌ له. فالصهيونية اليهودية، بدايةَ مشوارها في القرن الـ19، عملت على مصادرة عقيدة اليهود وتطويعها لمصلحة الصهيونية غير اليهودية، أي أيديولوجية «أرض الميعاد» وفق نسختها لدى بعض الفرق الإنجيلية والبروتستانتية في العالم الأنغلوساكسوني).
هذا ما ينبغي أن يُلحظ قبل أي حسبة للنصر التام والهزيمة الصرفة، علماً أنه يُشتمّ من استعجال النقاشات العربية حول النصر والهزيمة - والحرب لمّا تضع أوزارها بعد، وبناء على معيار التضحيات حصراً - تجديد للدعوة إلى اعتناق «خطاب الهزيمة».
إنّ في اختبار الموت الدائم فلسطينياً نتبيّن الخيط الرابط بين 15 أيار و7 أكتوبر، لكننا، بملاحظة الفارق بين موقعي طرفي الصراع في التاريخين، ندرك أن الموت الفلسطيني لا يتشابه تماماً:
الموت تحت خط أيار 1948 كان تجلياً لقرن التراجع العربي، بينما الموت تحت خط أكتوبر 2023 هو فاتحةٌ على مستقبلٍ عربي وكاشفٌ عن تبدّل الواقع وموازين القوى من حولنا - هو إثبات الفلسطيني على مستوى الجماعة، ولو بالموت الفردي مجدداً، أن مسألته غير قابلة للمحو. وشتّان بين المحو والموت.