شكّلت نكبة فلسطين في عام 1948/ 1949 مرحلة فاصلة في الوضع العربي والإسلامي، لا يقلّ في خطره عن نهاية الحرب العالمية الأولى، ولا سيما بالنسبة إلى الأمة العربية. وقد تكرّست بعدها تجزئة البلاد العربية إلى 22 قطراً أو جزءاً، ما شكّل، ويشكّل، أخطر عائق لنهضتها.وجاءت إقامة الكيان الصهيوني تكملة لهدفَي الاستعمار البريطاني - الفرنسي - الأميركي، الذي تحدّد منذ عام 1840. وذلك خلال هنري بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، الذي قاد الحرب الأوروبية التي أطاحت بجيش محمد علي الكبير. وتقرّر على إثرها ضرورة «إقامة حاجز بشري» يفصل «مغرب» البلاد العربية (أساساً مصر) عن «مشرقها». ومن ثم اختير أن يتألف هذا الحاجز من خلال إقامة كيان يهودي، وتعزيزه عسكرياً. وهنالك من يضيف إلى هذه الاستراتيجية، هدف حلّ المسألة اليهودية بالتخلّص من اليهود (هذا دافع جزئي كان موجوداً في حينه).

أمّا الهدف الثاني، فكان تجزئة البلاد العربية في ظل الهيمنة الغربية على كل العالم الإسلامي، بهدف استتباعه وتفكيكه، لإضعافه من خلال الهيمنة العسكرية، وتدمير بنيته الإسلامية، دينياً وحضارياً، وأنماطاً اجتماعية. وهذا الهدف المزدوج (الإسلامي - الغربي) تقرّر رسمياً في مؤتمر كامبل بنرمان عام 1905 - 1907.
إقامة الكيان الصهيوني من خلال القوة العسكرية في عام 1948/ 1949، تمّ عبر سيطرة بريطانيا عسكرياً على فلسطين من 1917 إلى 1948. وقد أمّنت هذه الحماية مئة ألف جندي بريطاني، وهجرة حوالي خمسمئة ألف يهودي مستوطن، تجمّعوا من عشرات البلدان.
هنا أمّن قرار التقسيم الرقم 181 لعام 1947، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، «الشرعية» الدولية لهذه المخالفة المشهودة للقانون الدولي، وحتى لميثاق هيئة الأمم المتحدة. لأن القانون الدولي الخاص بالمستعمرات يقضي بأن الشعب الذي كان يسكن البلد الذي تمّ احتلاله، يعتبر صاحب الحق الحصري في تقرير المصير، بعد رحيل الاستعمار. أمّا ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فلا يعطيها حق تقرير مصير أيّ بلد أو شعب في العالم، لأن شعبه هو صاحب الحق في ذلك.
من هنا، أُقيم الكيان الصهيوني بالاعتماد على قرار (توصية) باطلة من الهيئة العامة للأمم المتحدة. وكذلك قامت عضويته على باطل قانوني - ارتبط بتنفيذ الكيان الصهيوني الانسحاب من الأراضي التي احتلّت في الحرب، زيادة عمّا قرّره التقسيم. وكان حجمها 24% زيادة. وكذلك تنفيذ إعادة الفلسطينيين الذين هجّروا قسراً في حرب 1948 - 1949. ولكنه بعد حصوله على العضوية، لم ينفذ تعهده الذي اشترط قبول عضويته. وبهذا يكون الكيان الصهيوني فاقداً لشرعية حق الوجود، وحق إقامة دولة أو كيان، من وجهة نظر القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة.
هذا طبعاً إلى جانب فقدانه الشرعية، أن يدخل فلسطين تحت حراب الاستعمار، الذي يحرّم القانون الدولي عليه إحداث أيّ تغيير سكاني (ديموغرافي) أو جغرافي، في المستعمرة التي احتلّها وأخضعها لهيمنته. ففلسطين كانت عربية - إسلامية، قبل إقامة الكيان الصهيوني بحوالي 1400 عام. وهذا التاريخ يكاد يفوق تاريخ أغلب الشعوب التي تشكّل دول العالم.
كان من المحال أن تطأ أقدام الغزاة الصهاينة فلسطين لولا السيطرة الاستعمارية عليها من 1917 إلى 1948


ثمّة مجموعة من الملحوظات يجدر تناولها بمناسبة النكبة، مثلاً:
1- أُشيع أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود، علماً أن كلّ ما امتلكه اليهود في فلسطين في عام 1947 بلغ 6% وفقاً للإحصاءات البريطانية، وكان أغلبها من أراضي «الميري» – الأراضي المشاع العامة، التي يمتلكها الشعب الفلسطيني. ولا يحقّ لسلطات الانتداب منحها للمستوطنين.
2- ثمة شائعة تقول إن الفلسطينيين والعرب أخطأوا لعدم اعترافهم بقرار التقسيم. ومن ثم إقامة دولة فلسطينية كما يقضي قرار التقسيم الرقم 181 لعام 1947، والذي أعطاهم 46% من فلسطين. فهل هذا الادّعاء يحمل أيّة درجة من المعقولية، بالرغم من إجحافه الصارخ بحقّ الفلسطينيين الذين يملكون 94% من الأرض، وتعدادهم مليون ونصف مليون، فيما اليهود المستوطنون بالقوة كانوا 600 ألف. إنّ الاعتراف بالقرار المذكور كان سيعطي شرعية لإقامة الكيان الصهيوني. لأن الشعب الفلسطيني هو وحده صاحب الحق الشرعي بإعطاء مثل تلك الشرعية (وهذا حرام وطنياً ودينياً ومصلحة عليا، وبلا حقّ). والأهم، ما كان من الممكن أن يقبل الكيان الصهيوني، أو الدول الكبرى، تنفيذ قرار التقسيم الذي أرادوا منه إعطاء «شرعية» لإقامة «دولة إسرائيل»، وليس التنفيذ. لأن الحصة التي أعطيت لإقامة «الدولة اليهودية» كان سكانها العرب حوالي 48% منها، أي كانوا سيكونون الأغلبية بعد بضعٍ من السنين، وثانياً لأنهم، أي العرب، يمتلكون أكثر من 90% من الأرض المخصصة لإقامة الكيان، في ذلك الجزء.
ثم أضف امتلاك القوة العسكرية الكاسحة، والتأييد الدولي الكاسح بيد الوكالة اليهودية، التي استطاع جيشها أن ينتصر عسكرياً، على سبعة جيوش عربية (جيوش اسماً)، ويهجّر الفلسطينيين الذين جرّدهم الاستعمار من السلاح، تماماً، وأعطى سلاحه قبل أن يرحل لجيش الهاغاناه (الجيش الصهيوني).
3- وثمّة شائعة أخرى أخذت تبالغ بدور الحركة الصهيونية، وما قامت به من دور عالمي، وفي الحرب في عملية إقامة الكيان. هذا الرأي في الواقع وهمي لأنه كان من المحال أن تطأ أقدام الغزاة الصهاينة فلسطين لولا السيطرة الاستعمارية عليها من 1917 إلى 1948 – ولولا تجريد بريطانيا الشعب الفلسطيني من السلاح، والتحكم بتسلح وسياسات الدول العربية، التي كانت تحت السيطرة البريطانية والفرنسية، إمّا مباشرة وإمّا بمعاهدات وهيمنة.
ولهذا، يجب أن يعتبر أنّ قيام دولة الكيان الصهيوني قُدّم على طبق من فضة للحركة الصهيونية، التي ما كانت لتقوم لولا الحماية البريطانية – الفرنسية – الأميركية والمساعدة السوفياتية بتمرير قرار التقسيم وحتى في التسليح (صفقة تشيكية من السلاح) عام 1948.
أمّا ما فعلته تلك الدول المسيطرة على العالم، وعلى الدول العربية والإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، من تسليح للكيان الصهيوني في الخمسينيات وحتى اليوم، فلا جدال عليه أو تشكيك فيه. ولهذا، فإننا حين نسمع اليوم بعض الأصوات الشاذة في الكيان الصهيوني التي تدّعي أنها تستطيع أن تستغني عن الدعم الأميركي – الغربي، ندرك كم هي جاهلة وسخيفة. فالكيان الصهيوني، من الألف إلى الياء، صناعةٌ غربيّة، وجزء عضوي في الغرب. وعندما يصبح الوضع الدولي عاجزاً عن حمايته يتشكّل أحد شروط رحيله.