عفيف دياب
في البقاع الشمالي، يقاس العلم بالأمتار، وقرية حوش السيد علي نموذج. فمن تلك القرية المتاخمة للحدود السورية في البقاع الشمالي إلى كليات الجامعة اللبنانية في زحلة مسافة تتجاوز 320 كيلومتراً. في المقابل، تفصل بين القرية اللبنانية والأراضي السورية ساقية مياه عذبة رفع فوقها جسر خشبي لا يتجاوز طوله المتر الواحد، أما بينها وبين مدينة حمص، فأقل من 40 كيلومتراً. بعد تلك الكيلومترات القليلة، واحة أكاديمية فيها فروع من كليات الجامعات السورية ومعاهد تعليم عال ومتوسط. هكذا، «إذا ما التحق طالب من حوش السيد علي في فرع الجامعة اللبنانية في زحلة، فإن رحلته اليومية إلى جامعته ستستغرق 4 ساعات على طرق تشبه كل شيء إلا الدروب الآمنة، أما إذا التحق في الجامعة السورية في حمص، فرحلته لن تستغرق أكثر من نصف ساعة إذا عبر الجسر الخشبي سيراً على الأقدام، ونحو ساعة إذا سلك الطريق الرسمية بين البلدين»، كما يقول الشاب حسين ناصر الدين سائلاً: «إنت محلنا وين بتدرس؟». يضيف الشاب، الذي أنهى المرحلة الثانوية من تعليمه قبل أن يتجه نحو الأعمال الحرة: «نحن لا نملك من لبنان سوى بطاقة الهوية، هوية لا تعطينا مدرسة أو جامعة».
ليس حسين حالة استثنائية، كما لا تنحصر القضية في مجال التعليم العالي. فأكثر من ألفي تلميذ وطالب في مختلف مراحل التعليم من أبناء القرى اللبنانية الحدودية في البقاع الشمالي يتلقون تعليمهم في المدارس والمعاهد والجامعات السورية في حمص وحلب واللاذقية وقرى سورية أخرى متاخمة للحدود مع لبنان. في قرية حوش السيد علي، وقرى أخرى من جاراتها المتاخمة للحدود، يخال الزائر نفسه في سوريا. فهناك، يعيش لبنانيون، تربطهم بوطنهم بطاقات الهوية... فقط. أما جميع تفاصيل حياتهم، وليس ما يتعلق منها بتعليم أبنائهم فقط، فسوري: المياه والكهرباء والهاتف (الثابت والنقال) ووسائل النقل التي تركن في الجانب السوري ويقطع الأهالي سيراً على الأقدام خط حدود وهمياً لمسافة لا تتعدى المتر الواحد للوصول إليها واستقلالها لشراء حاجياتهم، جميع هذه الملامح المعيشية، سورية.
والسبب ليس المدرسة، فحوش السيد علي تحوي واحدة رسميّة، لكن النزوح والنزوح المضاد على الحدود دفع هذه المرة بأساتذها اللبنانيين إلى الاستقرار على الضفة الأخرى، في الأراضي السورية، وقطع الحدود إلى مدرستهم اللبنانية يومياً! فرواتبهم، ولو أنها متدنية، إلا أنها بالعملة اللبنانية، ما يكفل استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي على الأراضي السورية. وتضم مدرسة الحوش الابتدائية 69 تلميذاً وتلميذة يتولى شؤون تدريسهم 9 معلمين يقطن 5 منهم داخل الأراضي السورية (في ربله) و4 في الأراضي اللبنانية.
وينسحب التكامل بين القرى الحدودية في البلدين على جميع مظاهر الحياة. فالقرية التي يعتاش أهلها من الزراعة، تلتحق بالدورة الاقتصادية السورية، فهناك، يضمن الأهالي تصريف إنتاجهم الزراعي شبه المدعوم من الدولة السورية، كما يضمنون تعليم أولادهم في مدارسها وجامعاتها. يشرح ناصر الدين كيف أن أكثر من 30 فرداً من أبناء قريته الحوش «تخرجوا من الجامعة في مدينة حمص» قبل بضع سنوات، وكيف أن هناك اليوم «حوالى 40 طالباً يتابعون تحصليهم العلمي في الجامعة بحمص، فغياب التعليم العالي اللبناني عن منطقة الهرمل «عُوّض بالتعليم العالي في سوريا الأقرب إلينا جغرافياً، عدا أنها تؤمن لنا بعض الخدمات كالهاتف والكهرباء والمياه»، كما يقول، موضحاً أن «الطالب في لبنان يحتاج إلى أكثر من مئة ألف دولار لكي يصبح طبيباً بينما في سوريا لا تتجاوز الكلفة دراسة الطب الإجمالية مبلغ الخمسة آلاف دولار، هذا إن لم ينل الطالب اللبناني منحة تعليمية من الدولة السورية». فمعظم الطلاب اللبنانيين في الجامعات السورية ينالون منحاً تعليمية من الدولة السورية وهذا «لم ولن يحصل معنا في لبنان نهائياً، إذ إن الدولة لم تفكر لحظة واحدة في فتح كليات للجامعة اللبنانية في الهرمل أو حتى في بعلبك، ومن هنا فإن من أراد من شبابنا متابعة تحصيله العلمي، يرى في سوريا الأقرب إلينا في كل شيء، باباً مميزاً يرفع من شأن حياتنا اليومية والمستقبلية»، كما يقول ناصر الدين.
4 ساعات للوصول إلى زحلة وساعة إلى حمص
55% من التلاميذ في المدارس السورية
يفضل أهالي قرية حوش السيد علي زيارة حمص عشرين مرة يومياً ولا زيارة وسط البقاع مرة واحدة في الشهر. ويقول حسين ناصر الدين إن لبنان «لم يقدم لنا شيئاً يذكر»، مضيفاً أن عدد سكان القرية لا يتجاوز الألف نسمة، يتوزع نصفهم بين القرية وسوريا بينما انتقل النصف الآخر إلى الهرمل وبيروت. أما التلاميذ، فـ30% منهم يتركون المدرسة بعد الشهادة الابتدائية، بينما يتوجه 55% منهم إلى المدارس السورية.