تنظر كيّن (ساشيكو موراسي)، وأحفادها إلى السماء الزرقاء، التي تتوسطها سعفة «مهرجان كان» على الملصق الرسمي لـ«مهرجان كان السينمائي» الذي ينطلق غداً ليستمر حتى 25 أيار (مايو). يعكس هذا الملصق المأخوذ من فيلم Rhapsody in August (عام 1991) للياباني أكيرا كوروساوا، مسرح السينما ويحتفل بالفن السابع بسذاجة ودهشة كما جاء في بيان المهرجان. فيلم كوروساوا يحكي عن الجدة كيّن التي كانت ضحية لتفجير ناغازاكي عام 1945، وإيمانها بالحب والنزاهة كحصن ضد الحرب، وتنقل قناعاتها إلى أحفادها وابن أخيها الأميركي كلارك (ريتشارد غير). عبر هذا الملصق، يؤكد المهرجان قناعته بأنّ السينما تمنح الجميع صوتاً، فهي تتيح التحرّر، لأنها تتذكر الجروح وتحارب النسيان، ولأنها تشهد على المخاطر، فإنها تدعو إلى الاتحاد، ولأنها تهدئ الصدمات، فهي تساعد على إصلاح الأحياء (كما جاء في البيان أيضاً).
ملصق المهرجان

لعل هذه هي الطريقة الوحيدة «غير المباشرة»، الذي يحاول فيها المهرجان الإشارة إلى الحرب على غزة، «أو أوكرانيا»، لأنّه حتى اليوم لم يصدر أي بيان يدين الحرب على غزة أو يذكرها. مع العلم أنّه في عام 2022، تحدث رئيس أوكرانيا زيلينكسي خلال افتتاح المهرجان، مقتبساً من فيلم تشارلي تشابلن «الديكتاتور العظيم» (1940) وقائلاً: «سوف تمرّ كراهية الرجال، ويموت الطغاة، وستعود السلطة التي أخذوها من الشعب إلى الناس». هذه السنة، لا ترد غزة في بيانات المهرجان رغم حرب الإبادة التي تتعرّض لها، ولم تُذكر إلا مرة واحدة في المؤتمر الصحافي للمفوض العام للمهرجان تييري فريمو الذي أعلن عن أسماء الأفلام المشاركة في المهرجان، فذُكرت غزة عبر وثائقي بعنوان «حسناء غزة» (La Belle de Gaza ـ صُوّر قبل الحرب على غزّة بحسب فريمو)، للفرنسية يولاند زوبرمان، الذي يُعرض ضمن فئة «عروض خاصة» في المهرجان. طبعاً، لا يتناول الفيلم الحرب على غزة، بل المتحوّلين جنسياً في القطاع، وتحديداً سليم الذي هرب من غزة ليتحول جنسياً في تل أبيب، فأطلقت عليه المخرجة اسم «حسناء غزة»! هكذا، لم ير المهرجان أي إبادة حاصلة في غزة، فأصدر بياناً مائعاً ومطّاطاً عن السلام في المطلق، ولم يرفّ له جفن أمام المجزرة المستمرّة منذ السابع من أكتوبر 2023، بل هاله وضع الأقلية الجنسية في القطاع فاختار شريطاً عنها!
عدا ذلك، تنطلق النسخة السابعة والسبعون من الحدث الكبير على شاطئ الريفييرا الفرنسية، محمّلةً بعروض الأفلام الأولى والمؤتمرات الصحافية وبالنجوم والحفلات الباذخة. ومن المتوقع كما دائماً أن يتألق نجوم هوليوود بمن في ذلك جورج لوكاس، وميريل ستيريب، اللذين سوف يُمنحان «سعفة كان الفخرية». كما ستُعطى هذه السعفة إلى استديو «غيبلي» الياباني. وسيكون الاستديو الذي أنشأه العظيم هاياو ميازاكي عام 1985، مع صديقته أساو تاكاهاتا، والمنتج توشيو سوزوكي، أول كيان جماعي، وليس فرداً، يحصل على السعفة الذهبية الفخرية المخصصة للاحتفال بالمساهمات البارزة في تاريخ الفن السابع.

يقدّم فرانسيس فورد كوبولا حكاية ملحمية رومانية بعنوان «ميغالوبوليس»


«بذرة التين المقدسة» لمحمد رسولوف

لا يزال المهرجان صارماً لناحية عدم عرض أفلام نتفليكس والمنصات الرقمية الأخرى، ومخلصاً لروح الشاشة الكبيرة. يأتي ذلك في لحظة مفصلية في فرنسا، إذ يكافح موزعو الأفلام «غير التجارية» لجذب الجماهير إلى السينما. كما اضطرت بعض الشركات إلى الإغلاق في الأشهر الأولى من هذا العام. وبينما عادت صناعة السينما في فرنسا والعالم إلى مستويات ما قبل الوباء، لم تسترد سينما المؤلف جمهورها بعد. لذلك، نلاحظ أن المهرجان يحاول التوفيق في برمجته بين الأفلام التجارية الكبيرة وسينما المؤلف، التي يمكن أن تصل إلى جماهير السينما السائدة في أنحاء العالم. يحاول المهرجان هذه السنة تحقيق التوازن بين التفرّد وجذب الجمهور، كما مساعدة الأفلام غير التجارية في العثور على الجماهير عندما تٌعرض في دور السينما. أفلام المسابقة الرسمية و«نظرة ما» والأقسام الأخرى من بينها «نصف شهر المخرجين» و«أسبوع النقّاد»، تمتلئ بالعناوين الجذابة تجارياً، وبالأسماء التي تشارك للمرة الأولى، كأنّ المهرجان يخاطب الجماهير كلّها من المشهد المستقلّ إلى هوليوود.
هذا التوازن نلاحظه أيضاً عبر لجان التحكيم. رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية هي الأميركية غيرتا غيرويغ، التي بدأت مسيرتها في السينما المستقلة قبل أن تحطم الأرقام القياسية في شباك التذاكر مع فيلمها «باربي» (2023)، وتشاركها اللبنانية نادين لبكي، والممثلة الأميركية ليلي غلادستون، التي اشتهرت في فيلم مارتن سكورسيزي الجديد «قتلة زهرة القمر» (2023)، وأيضاً كاتبة السيناريو والمصورة التركية إيبرو جيلان، التي شاركت في كتابة أشهر أفلام زوجها المخرج نوري بيلجي جيلان، من بينها «سبات الشتاء» الذي حاز «سعفة كان» عام 2014، والممثلة الفرنسية إيفا غرين، والمخرج خوان أنطونيو بايونا، الذي حاز فيلمه «مجتمع الثلج» (2023) مشاهدات عالية على منصة نتفليكس. كما يشارك في اللجنة الممثل الإيطالي بيار فرانشيسكو فافينو، والممثل الفرنسي عمر ساي المشهور بمسلسل «لوبان» على نتفليكس.
أما مسابقة «نظرة ما» فيرأسها المخرج الكندي كزافيي دولان، الذي كان يريد ترك السينما العام الماضي، بسبب عدم وجود جماهير متحمّسة لمشاهده أفلامه، هو الذي قال علانية: «لا أشعر برغبة في الالتزام لمدة عامين بمشروع لا يكاد يراه أحد. لقد وضعت الكثير من الشغف في السينما حتى لا أحصل على خيبات الأمل هذه، وهذا يجعلني أتساءل إذا كانت أفلامي سيئة، وأنا أعلم أنها ليست كذلك». دولان دائم الحضور في «كان» والمهرجانات العالمية، ويبدو أنّ عودته إلى «كان» كانت أشبه بـ «تطييب خاطر» لمخرج يواجه أزمة عدم وجود جماهير لأفلامه التي تُعدّ أفلام مؤلف، مع أنها جيدة الصنع. يتشارك مع دولان في اللجنة، كل من المخرجة المغربية أسماء المدير الذي حازت جائزة أفضل مخرجة في مسابقة «نظرة ما» عن فيلمها «كذب أبيض» (2023)، والمخرجة السنغالية الفرنسية مايمونا دوكوري، والممثلة الألمانية فيكي كريبس، والناقد السينمائي الأميركي تود ماكارثي.

ينافس يورغوس لانثيموس على السعفة الذهبية بفيلمه «أنواع من اللطف»

ستجمع الدورة الجديدة عدداً من صنّاع الأفلام البارزين، بمن في ذاك الأميركي فرانسيس فورد كوبولا بفيلمه الجديد «ميغالوبوليس»، وهو حكاية ملحمية رومانية تدور أحداثها في أميركا الحديثة المتخيّلة، وجورج ميلر مع فيلم «فيروسيا»، من سلسلة «ماد ماكس»، وكيفن كوستنر في الجزء الأول من ملحمة الويسترن «أفق: ملحمة أميركية». كما سيتنافس على السعفة الذهبية اليوناني يورغوس لانثيموس بفيلمه الجديد «أنواع من اللطف»، بعدما حاز «أسد» مهرجان البندقية العام الماضي بفيلمه «كائنات مسكينة». فيلمه الجديد، هو حكاية ثلاثية، تتبع رجلاً بلا خيار يحاول السيطرة على حياته وشرطياً يشعر بالقلق من عودة زوجته المفقودة في البحر؛ وامرأة مصمّمة على العثور على شخص ذي قدرة خاصة، ومن المقدر له أن يصبح قائداً روحياً. ويحضر المخضرم بول شريدر بفيلمه «أوه، كندا»، عن مخرج أفلام وثائقية شهير يجري مقابلة أخيرة مع أحد طلابه السابقين ليخبرنا الحقيقة الكاملة عن حياته. ويشارك الإيطالي باولو سورنتينو بفيلم «بارثينوبي»، الذي يحكي الرحلة الطويلة لبارثينوبي منذ ولادتها عام 1950 حتى اليوم في ملحمة أنثوية، خالية من البطولات وبشغف لا يرحم، فيما يتصدر الاسم القديم لنابولي عنوان الفيلم. وبعدما فاجأنا الإيراني الدنماركي علي عباسي بفيلمه «العنكبوت المقدس»، يعود بفيلم جديد بعنوان «المتدرب»، يغوص في أعماق الإمبراطورية الأميركية، بينما يرسم خريطة صعود دونالد ترامب إلى السلطة عبر «صفقة فاوست» مع المحامي اليميني والمصلح السياسي روي كوهن. فيلم إيراني آخر يشارك في «كان» هو شريط محمد رسولوف الذي حُكم عليه أخيراً بالسجن لمدة ثماني سنوات بسبب فيلمه «بذرة التين المقدسة». وكانت السلطات الإيرانية تأمل أن تجبر رسولوف بهذا الحكم على سحب فيلمه من المسابقة، بعدما منعت جميع من شارك في الفيلم من السفر إلى كان. تدور أحداث «بذرة التين المقدسة» حول تعامل قاضٍ في المحكمة الثورية في طهران مع تداعيات الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة. كما يشارك في المسابقة الرسمية المخرج الجزائري البرازيلي كريم عينوز، والأميركي شون بيكر، والإنكليزية أندريا أرنولد، والفرنسي جاك أوديار، والبرتغالي ميغيل غوميز، والكندي ديفيد كروننبيرغ، وغيرهم.
أما لناحية المشاركات العربية، فتضمّ مسابقة «نظرة ما» فيلم «القرية المجاورة للجنة» للصومالي مو هواري الذي تدور أحداثه في قرية صومالية، حيث تجد عائلة نفسها مجبرة على التنقّل بين تطلّعاتها المختلفة والعالم المعقّد المحيط بها. وكان هواري قد أدهشنا بفيلمه القصير «هل سيأتي والديّ لرؤيتي» في «مهرجان برلين» عام 2022. تناول الشريط يومها أحداث يوم واحد في حياة شاب صومالي مدان بالإرهاب، يخضع للإجراءات الرسمية قبل حكم الإعدام. طرح الفيلم نقاشاً بشأن حكم الإعدام عبر وجهة نظر غير تقليدية. وللمرة الأولى في «مهرجان كان»، تشارك السعودية في المسابقة عبر فيلم «نورة» للسعودي توفيق الزايدي. تدور أحداث الفيلم في قرية نائية في حقبة التسعينيات وتبدأ عندما يأتي مدرّس جديد إلى مدرسة نورة، فيفتح لها عالماً أوسع من الاحتمالات.
وفي عروض Cannes Premiere، يحضر المغربي نبيل عيوش بفيلمه «الجميع يحب تودا» الذي يحكي قصة تودا، التي تحلم بأن تكون «شيخة». تغني أغنيات عن المقاومة والحب والتحرّر. وفي كل مساء، تؤدي عروضها في الحانات تحت أنظار الرجال في قريتها الصغيرة بينما تتأمل في مستقبل أفضل لها ولابنها.
لا يزال المهرجان صارماً لناحية عدم عرض أفلام نتفليكس والمنصات الرقمية الأخرى


وفي «أسبوع النقاد»، يشارك الوثائقي المصري «رفعت عيني للسما»، من إخراج أيمن الأمير وندى رياض. تدور أحداث الفيلم في قرية البرشا في محافظة المنيا، حيث تقوم مجموعة من الفتيات بتأسيس فرقة وعرض مسرحياتهن المستوحاة من الفولكلور الشعبي الصعيدي في شوارع قريتهن الصغيرة لتسليط الضوء على القضايا التي تؤرّقهن كالزواج المبكر والعنف الأسري وتعليم الفتيات. وأيضاً يشارك «البحر البعيد» للمخرج الفرنسي المغربي سعيد حميش الذي يتناول قصة مغربي هاجر بشكل غير قانوني إلى مرسيليا، يحاول هو وأصدقاؤه الجزائريون، تدبّر أمورهم بقدر المستطاع.
وتشارك في «أسبوعا المخرجين» ثلاثة أفلام عربية. من مصر، تقدم هالة القوصي «شرق 12» الذي تدور أحداثه في أرض صناعية قاحلة وعالم مغلق خارج الزمن. وفي إطار من الفانتازيا الساخرة، يتمرّد الموسيقار الشاب عبدو (عمر رزيق) على شوقي البهلوان (أحمد كمال)، الطاغية الذي يحكم بخليط من العبث والعنف. وبينما جلالة الحكاءة (منحة البطراوي) تخفف عن الناس بحكايات خيالية عن البحر الذي لا أحد يعرفه، يخطط عبدو، مستعيناً بموهبته، مع الشابة ننة (فايزة شامة) لكسر قبضة شوقي ونيل الحرية في عالم أرحب.
بعد الكثير من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، يقدّم الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل باكورته «إلى أرض مجهولة» الذي لا يختلف كلياً عن أفلامه القصيرة، التي تقارب أزمة اللجوء في أوروبا. يحكي الشريط قصة شابين فلسطينيين فرّا من مخيّم في لبنان، ووصلا إلى أثينا، ويعيشان في طي النسيان. وفي سعيهما اليائس إلى إيجاد وسيلة للوصول إلى ألمانيا، يجدان نفسيهما عالقين في دوامة لا يمكن السيطرة عليها. ومن الجزائر يقدم ريان مكيردي فيلمه القصير «بعد الشمس» الذي يروي قصة عن عائلة جزائرية تسلك الطريق من ضواحي باريس للوصول إلى مرسيليا. أثناء الرحلة، يختلط الواقع بالخيال، والمتعة بالحماس والحرية والحنين إلى الماضي والوطن.