لعل كثيرين في العالم العربي سمعوا بجيريمي كوربين، النائب اليساري المخضرم في مجلس العموم البريطاني، نصير فلسطين والقضايا العربية، الذي كان مرشحاً لتولي منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة لولا تحالف كل أطراف اليمين والصحافة والنظام ضده في الانتخابات العامّة عام 2019 ليخسر حينها لمصلحة بوريس جونسون، رغم الشعبية الاستثنائية التي تمتع بها، ولا سيما بين جيل الشباب البريطاني الجديد الذي كان يحلو له الترنم بنشيد «أوه يا جيريمي كوربين» كلما لمحوا الرجل الجليل بينما يمضي إلى شأنه في مكان عام. استغرب كثيرون وقتها ما حدث، ووضعت تفسيرات عدة من منطلقات فكرية متباينة. لكن أكثرها إثارة للجدل كان الطرح الذي تضمّنه وثائقي «أوه يا جيريمي كوربين - الكذبة الكبرى» (2023) الذي يصف مؤامرة تورّط فيها اللوبي الصهيوني الواسع النفوذ في بريطانيا لتشويه سمعة الرجل، ووصمه كذباً بمعاداة السامية. تهمة جاهزة معلّبة تطلق في الغرب ضدّ كل من ينتقد سلوك الدولة العبرية في تعاملها مع العرب والفلسطينيين.


لدى إطلاقه، تعرّض الفيلم إلى حرب شعواء من الصهاينة والمتصهينين، وفُرضت ضغوط هائلة على منظمي «مهرجان غلاستونبري للثقافة والفنون» لإلغاء عرضه الافتتاحي على هامش أنشطة المهرجان، ليخضع هؤلاء ويعتذروا بصفاقة لأنّ «الكذبة الكبرى» أُدرج عن «حسن نيّة» ضمن الفعاليات سعياً إلى إثارة نقاش سياسيّ، قبل أن يتقرر أنّه «غير مناسب» للعرض على الجمهور، فـ «غلاستونبري» يتعلّق بالوحدة وليس الانقسام، ويقف بحزم «ضدّ أشكال التمييز كافة». لكن الواقع أنّ هيئة النوّاب اليهود في البرلمان، تواصلت مع إدارة المهرجان وأبلغتها بـ «قلق اليهود البريطانيين العميق» بشأن عرض الشريط على الجمهور. ونقلت صحف لندن عن رئيسة الهيئة ماري فان دير زيلن قولها إنه «سيكون عملاً شريراً جداً لو عُرض هذا الفيلم في مهرجان للفنون»، فيما أطلق ناشطون صهاينة حملة على الإنترنت اتهمت «غلاستونبري» بمعاداة اليهود. بعد سحب الفيلم، غرّدت الهيئة على صفحتها على إكس (تويتر سابقاً) بأنها تلقّت رسالة من إدارة «غلاستونبري» أبلغتها فيها عن إلغاء عرض الوثائقي، وتبجّحت بالقول: «لا ينبغي أن يكون لنظريّات المؤامرة البغيضة مكان في مجتمعنا».
وقتها، أصيب جمهور «غلاستونبري» بالخيبة لإلغاء افتتاح الفيلم في اللحظة الأخيرة، وتظاهر المئات أمام دار سينما «بيلتون باليه» حيث كان يفترض أن يُقدم العرض الافتتاحي، مردّدين عنوان الشريط: «أوه يا جيريمي كوربين». لكن اللجنة المنظمة وكأن بها الصمم.
ورغم المحاولات الممنهجة لمنع عرضه بعد «غلاستونبري»، قُدِّم الفيلم إلى الجمهور أكثر من 350 مرة في صالات وقاعات بعض المراكز المجتمعية وأماكن أخرى في جميع أنحاء البلاد، وشاهده عشرات الآلاف. ويبدو أنّه في ظل حرب الإبادة التي تشنّها القوات الإسرائيلية على غزّة، وتوسّع دائرة التعاطف المتزايد مع الفلسطينيين في الغرب إلى نحو غير مسبوق، فقد قررت شركة «بلاتفورم فيلمز» المنتجة للشريط طرحه مجاناً للجمهور حول العالم عبر صفحتها على يوتيوب. يفكك «أوه يا جيريمي كوربين - الكذبة الكبرى» اتهامات معاداة السامية التي وجهت ضد كوربين طوال نضاله السياسي المديد. وعلى لسان الممثل الكوميدي اليساري (اليهودي) أليكسي سايل مع مساهمات من الكاتب جاكي ووكر، والمخرج كين لوتش ومستشار كوربين السابق أندرو موراي، ونعومي ويمبورن إدريسي من «منظمة الصوت اليهودي» من أجل العمل وآخرين، يكشف الفيلم حكاية مظلمة مروعة من تقاطع الخداع السياسي وتوظيف الفحش الأيديولوجي لوصم شخصية نبيلة مثل جيريمي كوربين بالعداء للسامية، ومنع وصوله إلى المنصب التنفيذيّ الأهم في هيكلية السلطة في بريطانيا، إذ لا يكاد يختلف اثنان على أن سلوك حكومة لندن كان ليختلف تماماً تجاه المذبحة في غزّة، لو أن كوربين كان على رأسها. لا عجب أن أصحاب النفوذ في المملكة كما على الجانب الآخر من الأطلسي، تأكدوا بأنّه لن يقترب أبداً من تسلّم مفاتيح 10 داونينغ ستريت (مقر رئاسة الوزراء في قلب العاصمة). وقد علمنا بأنّ «بلاتفورم فيلمز» تنكبّ على إنتاج وثائقي جديد الآن بعنوان «الكذبة الكبرى -2»، سيكون موضوعه الأحداث في فلسطين وتأثيرها على المشهد السياسي البريطاني.