عمران يونس (1971)، الفنان الذي لامس ذات يوم التكوينات الوحشية القاسية الألوان، منتصراً لغريزة الصيد والقتل، هو نفسه الذي أنجز سلسلة تجارب تقارب العلاقات الإنسانية بمفهومها الجمعي، ولا تخلو من محاكمة للأخلاقيات التي تنظُمُها. وهو أيضاً الفنان نفسه الذي يقدّم في تجاربه الحديثة التقاطات تشبه إلى حد كبير الصورة الفوتوغرافية القديمة، يوم كان الذهاب لالتقاط الصورة رحلةً ومغامرةً تُحكى.
أعمال يونس التي تستضيفها «غاليري أيام» حالياً في بيروت ودبي على حد سواء، تطل على تجربة هذا الفنّان الشاب الخارج من تراكمات المحترف التشكيلي السوري، والمنتبه إلى أن إنجاز تجربة مغايرة وجديدة، يتحقق من مشاهدات دقيقة واختبارات عميقة للقدرات الفردية والحرفة والموهبة: «كلما شاهدت أكثر واختبرت المزيد من اللوحات، شعرت بأنني أقترب من قلب الفن المعاصر» يقول. إنها إحدى المهام القاسية التي يلزم بها الفنان نفسه، إذ يُخضع الحياة لمراقبة ذكيّة تخوّله تقديم مشهديات واقتطاعات، يؤسِّس عليها ما يمكن تسميته الفرجة أو الحكاية البصرية. ويبني من خلالها أيضاً صورة الفنان وتداخله مع مكونات العالم، أو احتجاجه عليها، أو حتى لامبالاته بها. لوحة عمران يونس لا تتردد في إظهار استهتارها بمنطق الأشياء، بل تعلن انحيازها المتطرّف إلى كائناتها. تقنيات حرة تمسرح محتويات اللوحة، وتضعها على حواف مصائر خانقة وفق لعبة بصرية مفتوحة على تراجيديا العلاقات الإنسانية.
ينتقي الفنّان مواضيعه بعناية شديدة. ويؤمن بأنّ أي إقتراح جمالي جديد لا مكان فيه للمصادفة، بل هو رحلة مضنية إلى جوهر الفن ومعناه. لوحاته ارتحال بين مجموعة من التفاصيل التي توفر مساحةً لاختبار الذات والآخر، والتحولات الإنسانية العميقة التي شهدتها مجتمعاتنا. ليس هناك شخصية تعلن عن نفسها، بل ثمة توريات مباشرة للوجه، واستخدام متكرر للأقنعة. وحتى في أعماله الجديدة التي وضع فيها الأقنعة جانباً، نراه يؤسس لأقنعة نفسية تؤكد الاغتراب الداخلي للشخصية.
وإذا كانت أعمال يونس مشحونة بالأحلام والرغبات والعوالم الماضوية، فإن هذه التعبيرات ليست نوعاً من الحنين المجرد، بقدر ما هي استدعاء للماضي بهدف محاكمته وتجريده من سحريته الخادعة. لنر كيف تتضخم الشخصيات، وتهيمن الرؤوس الكبيرة على العمل، وفق تكوينات لونية تمنح الشكل بعداً نتوئياً. وبذلك، يعلي يونس من شأن المخيلة جاعلاً لها سطوة على الذاكرة لدى الفنان. اللوحات ليست إعادة اكتشاف للتفاصيل، بقدر ما هي إفصاح عن رغبة الفن في التدخل بمفردات الماضي، والتخلص من إرهاقه وتأثيره في عالمه الواعي.
الفنان السوري الشاب الذي عرضت أعماله إلى جانب ضياء عزاوي ومنى حاطوم ويوسف نبيل، يتحدى بقدر كبير من الشغف وبتأويلاته الصادمة جملةً من القناعات والثوابت. ويصل في تجربته الجديدة إلى أجواء تصويرية مبهرة، متدفقة على سطوح وخطوط سائلة، تقوِّي من إغراءات التأمل في عناصره، وتُعمِّق من ذلك البناء المشهدي الحافل بالأحزان والمسرات. هكذا تزدحم لوحة بصخب لوني وبشري، بينما يتسع الفراغ في لوحات أخرى، بألوان بسيطة متقشفة لا
بورتريهات عائلية تتماهى فيها ملامح الذكورة والأنوثة
عمران يونس فنان مجرّب، يرتحل ارتحالاً حقيقياً ومدروساً في الزمان والمكان، نحو غاية تنتصر للمعاصرة. تجربته سيكون لها أثر واضح في مسار اللوحة السورية الحديثة.
حتى 25 آذار (مارس) المقبل ـــ «غاليري أيام» (بيروت ــــ 01/374450)
ودبي (0097143236242)
www.ayyamgallery.com
ألوان الوحدة
عن معرضه الجديد الذي يضم 14 لوحة (معظمها بلا عنوان) ويقام في «غاليري أيام»، يقول عمران يونس: «كل سلسلة تفرض ألوانها الخاصّة. وكلّ موضوع أو تيمة يستوجبان استخدام تدرّجات لونيّة محدّدة. مجموعتي الجديدة ترتكز على بورتريهات فوتوغرافية التُقطت قبل استخدام تقنية اللون. وهي إنما تحيل إلى أحاسيس ومشاعر الوحدة والحنين، وتوق إلى الذكريات واستدعاء محطّات من الماضي». من خلال البورتريهات والوجوه المضخّمة، يريد عمران أن يمرّر لنا فكرة انبعاث الماضي واستئساده وتسيّده مساحة اللوحة.
ولد عمران يونس في الحسكة في عام 1971، وتخرّج من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1998، ثم نال دبلوم دراسات عليا في التصوير الزيتي عام 2000. لفت ببراعته في تصوير موضوعاته التي يقاربها مستشكفاً في مرحلة أولى، قبل أن يشتغل بمهارة على محاولة تجسيدها.