أما أفيوني، فقد تحدّث عن كلفة التمويل الباهظة التي يدفعها لبنان للحصول على التمويل بالعملات الأجنبية، مشيراً إلى أن الجهة الوحيدة التي تحصل على التمويل هي مصرف لبنان «وكلفة احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية باتت كبيرة جداً». واستطرد أفيوني في اتجاه الإشارة إلى المؤشرات السلبية التي تتلقاها الأسواق، إذ إن كلفة التأمين على السندات اللبنانية ارتفعت إلى 14%، فيما كانت عند تأليف الحكومة 9%، أي بزيادة 5 نقاط مئوية، لافتاً إلى أنه رغم الحديث عن بدء تطبيق خطة الكهرباء وعن إقرار موازنة 2019 وبدء العمل على موازنة 2020 واجتماع القيادات في حوار بعبدا، «إلا أن الأسواق لم تتقبل هذا الأمر بصورة إيجابية. يجب أن تكون هناك استجابة قويّة للحكومة في مواجهة التدهور في الأسواق».
الحديث عن المتأخرات ونقص السيولة فتح أبواباً مغلقة. فهل صحيح أنه ليس لدى وزارة المال السيولة الكافية لتسديد المتأخرات، أو جزء منها على الأقل؟ يقول مدير المحاسبة السابق أمين صالح إن «كل التحويلات من كل المصادر إلى الخزينة تذهب إلى حساب الخزينة رقم 36 لدى مصرف لبنان، باستثناء ما يكون لدى الصناديق والمحتسبيات التي تُفرَض عليها حدود معينة في الاحتفاط بالأموال». كلام صالح يعني أن كل الأموال المحصلة من الضرائب والرسوم والاستدانة عبر إصدارات سندات الخزينة الأسبوعية، توضع في هذا الحساب، وأن الذي يعلم وضعيته هو مصرف لبنان ومديرية الخزينة في وزارة المال. وبحسب مصادر مطلعة، سجّل هذا الحساب قبل بضعة أيام فائضاً في السيولة يقلّ قليلاً من 4000 مليار ليرة، ما يشير إلى أمرين: وزارة المال صرفت مبالغ كبيرة خلال فترة قصيرة، ويفترض أن تكون قد صرفتها لسداد المتأخرات، أو أن التذرّع بنقص السيولة لعدم سداد المتأخرات أمر غير دقيق. «المسألة مرتبطة بغايات سياسية وزبائنية للتسديد بشكل انتقائي. هذه سياسة متبعة لدى كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة المال، إذ ليس بإمكان مدير الخزينة أن يوقف أي حوالة للدفع صدرت واقترنت بموافقة مديرية الصرفيات، ولديه مهلة ثلاثة أيام للتسديد، إلا إذا تلقى أوامر شفهية أو خطية من رؤسائه»، يقول صالح.
هذا يعني أن مسألة التذرّع بنقص السيولة ليس دقيقاً، وإن كان فيها شيء من الصحّة. فالمعروف أن المصارف امتنعت منذ فترة عن الاكتتاب بسندات الخزينة، لكن مصرف لبنان والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يغطيان النقص في الاكتتابات، ما يوفّر للخزينة السيولة والفائض الذي راكمته في حساب الـ36. أبرز دلالة على ذلك، أن وزارة المال، بحسب نشراتها الرسمية، أصدرت سندات بقيمة 8334 مليار ليرة في الفصلين الأول والثاني من السنة الجارية، وقد بلغت حصّة مصرف لبنان من اكتتابات سندات الخزينة من أول السنة لغاية حزيران 69%، فيما بلغت حصّة المؤسسات العامة (الضمان الاجتماعي) 29.4%، علماً بأن مجموع الإصدارات حتى نهاية آب بلغ 10600 مليار ليرة.
بطيش: على مصرف لبنان التوقف عن إصدار شهادات الإيداع بالليرة
على أي حال، إن النقاش الحاصل في مجلس الوزراء أمس حول المتأخرات وأسبابها، يشي بأن القوى الحاكمة لم تدرك بعد حجم المخاطر التي تتهدد الاقتصاد اللبناني ومدى الانحدار الذي يغرق فيه، علماً بأن قيمة المتأخرات المشار إليها تتجاوز ملياري دولار، منها مليار دولار تعود إلى السنة الماضية، ومليار وما يزيد هي عبارة عن فواتير صرف جاهزة للدفع عن السنة الجارية. ويضاف إلى هذه المتأخرات، مبالغ أخرى تعود للسنوات السابقة، منها ما يعود إلى المقاولين والمتعهدين بقيمة 135 مليون دولار عن عام 2017، وما يعود للمستشفيات بقيمة 139 مليون دولار عن عام 2017، وهناك مبلغ 2.33 مليار دولار تعود للضمان الاجتماعي.
مراكمة هذه المتأخرات تعني أن وزارة المال تحاول القيام بعملية تجميل محاسبية لتقديم صورة زهرية عن أوضاع المالية العامة، تضاف إلى صورة مماثلة يحاول مصرف لبنان تقديمها من خلال احتياطاته بالعملات الأجنبية التي قالت عنها «فيتش» إنها سلبية بقيمة 32 مليار دولار، وقالت عنها «ستاندر أند بورز» إنها سلبية بقيمة 6 مليارات دولار، وهي قاصرة عن تغطية 70% من حاجات لبنان التمويلية بالعملات الأجنبية في السنوات الثلاث المقبلة.
الموازنة على نار «الشعبوية»
كان لافتاً في مجلس الوزراء، أنه رغم إعلان وزير المال إحالة مشروع قانون موازنة 2020 على الأمانة العامة لمجلس الوزراء، إلا أن جلسة أمس لم تشهد أي نقاش حول بدء مناقشة المشروع، لا بل يشير أحد الوزراء إلى أن «جلسة الثلاثاء حتى الآن عادية ولم تدرج الموازنة فيها بعد، ولم يوزّع مشروع الموازنة على الوزراء لدرسه والتحضير لبدء مناقشته. هناك شكوك في أن النسخة المرسلة من وزير المال إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي مجرّد مسودة لا تتضمن أي إجراءات، سواء اتفق عليها في حوار بعبدا أو لم يتفق عليها في انتظار اتفاق ما خلف الكواليس ليُرسَل المشروع بصيغته النهائية بشكل توافقي بين الأطراف كلها، ولئلّا يتحمّل طرف واحد مسؤولية أي إجراءات تنوي الحكومة القيام بها ويكون مردودها الشعبي سلبياً».