الواقعة الثانية هي أن قائد الجيش العماد جوزف عون، الذي كرّر لقاءاته في الفترة الأخيرة بالرئيس نبيه بري، بادر علناً، خلال لقاء عسكري داخلي، الى طرح موضوع تعيين رئيس للأركان وملء الشغور في المجلس العسكري، ومن ثم خلال لقائه رئيس المجلس، في خطوة سياسية غير معتادة لقائد للجيش، وفي توقيت ملتبس، إلا من باب الرسائل السياسية. مع أن تبرير عون يستند الى وضع إداري بحت، بحجة انتفاء التشابه بين وضع الحاكمية ووضع قيادة الجيش التي تستلزم إدارياً وإمرةً وجود رئيس للأركان يحلّ محلّ قائد الجيش عملانياً.
بين الواقعتين، مجال رحب للنقاش السياسي حول موجبات الثنائي في إعادة تحريك ملف الحاكمية، وهذا الكلام نوقش حتى قبل بيان نواب الحاكم وفي قيادة الجيش، وليس كلام الرئيس نبيه بري الأخير وحده المؤشر عن فتح ملف الحكومة في ممارسة صلاحياتها وفرض وقائع تعارضها القوى المسيحية.
قبل أن ينتهي عهد العماد ميشال عون، كان معارضو رئيس التيار جبران باسيل ينتقدون إدارته لملف تشكيل الحكومة. واستند هؤلاء الى أن الشغور طويل وأن من مصلحة التيار الوطني أن تشكل حكومة بالتي هي أحسن ويشارك التيار بقوة فيها، فلا يتخطّاه أيّ طرف. اليوم، يتحسّس التيار الوطني خطورة المناورات التي أجراها وأدت الى بقاء حكومة تصريف للأعمال وفاقدة الصلاحيات، ومع ذلك، تجتمع وتقرر، وفي طريقها إلى أن تمارس صلاحيات التعيين أو التمديد بقرارات يمكن للاجتهاد التشكيك بصحتها أو الاعتراف بها. وجّه التيار انتقاداته الى القوات اللبنانية لأنها هادنت الرئيس نجيب ميقاتي ولم تقف موقفاً حاسماً ضد عقد جلسات الحكومة، مع أن القوات كانت واضحة في رسم حدود صلاحيات الحكومة، وإن كانت حيّدت رئيس الحكومة الى حين، إلا أنه اليوم يبحث في ما استجدّ من ظروف وضعها الثنائي أمام الحكومة ومعها القوى المعارضة، على طريق تحويل الحكومة كاملة الصلاحيات، ومعها فرض الثنائي أسلوب عمله خطوة خطوة.
اليوم يتحسّس التيار الوطني خطورة مناوراته التي أدّت الى بقاء حكومة تصريف الأعمال
في الأيام الأخيرة، بدا أن قوى سياسية استشعرت خطراً ما في ملف الحاكمية، رغم إيحاءات التطمين بأن نائب الحاكم الأول سيخلف الحاكم، ولا سيما أن إشارات ديبلوماسية غربية لمّحت الى هذا الاحتمال أكثر من مرة، رغم كل ما يحاط بالحاكم من ملفات قضائية. لكن أحداً لم يكن مستعداً للمجاهرة بأن هذا الخيار سيكون مطروحاً بجدية أمام القوى السياسية المعارضة، ومعها التيار الذي يخوض حرباً ضد حاكم المركزي، وموقف القوى المسيحية منذ هذه الخطوة. ترافق ذلك مع فتح موضوع رئيس الأركان في الجيش، بذريعة أن قائد الجيش لا يستطيع السفر خارج لبنان. هذه الذريعة الواهية التي تخفي وراءها فتح ملف التعيينات في المجلس العسكري، تواجه بثلاثة تحديات، الأول، موقف الحزب التقدمي الاشتراكي الذي له الدالّة الكبرى عادة في اختيار رئيس الأركان، وما إذا كان الحزب يمكن أن يوافق على هذه الخطوة من دون تنسيق مع المعارضة، ما قد ينسحب على ملفات تنسيقية أخرى. وموقف القوات التي حتى الآن تقف موقف إيجابياً من قائد الجيش رئاسياً، لكنها تتريّث في اتخاذ موقف نهائي من تحديد الصفة التي يتخذها هذا التعيين إذا كان من باب الضرورات القصوى أو لا. والموقف الثالث موقف التيار الوطني الحر بطبيعة الحال عبر وزير الدفاع. لكن فتح المعركة المبكرة قبل ستة أشهر من انتهاء ولاية قائد الجيش، وتزامناً مع الكلام عن أن خطوة نواب الحاكم هي ذريعة للتمديد لسلامة، يطرح لاحقاً إمكان التمديد لقائد الجيش نفسه، كما حصل ثلاث مرات مع قائد الجيش السابق جان قهوجي، الذي مدّد له مع رئيس الأركان حينها. رغم أن اقتراح التمديد من صلاحيات وزير الدفاع المحسوب على التيار، وهو في المبدأ لا يمكن أن يقدم على هذه الخطوة، ما دام هو اليوم يعارض فكرة تعيين رئيس الأركان واقتراح مرشحين للمجلس العسكري، إلا أن الشغور المتوقع حينها سيفرض على القوى المسيحية خيارات أخرى في الضغط للتمديد أسوة بسوابق مماثلة.
كل ذلك يقود الى فكرة أن الفوضى العارمة في كل ما سبق تضع المعارضة المسيحية والتيار في سباق مع كل أنواع الاجتهادات والفخاخ الموضوعة في لعبة عضّ أصابع تأخذ منحى أكثر جدية وحدّة.