مقالات مرتبطة
لكنّ كالدار الذي يتّهم أدب الديكتاتوريين بأنّه «تجربة قاتلة للروح»، أخفق في المهمة التي تصدى لها بجدارة لافتة، فغرق في لجج الجدل المنحاز شكلاً ومضموناً للرؤية الغربيّة الاستشراقيّة الطابع، وفشل في وضع الأمور في سياقات فلسفيّة أو تاريخيّة أو لغويّة أو سياسيّة تفيد القارئ، وأغرقنا بشعارات عامّة مفرغة من أيّ مضمون حقيقي، وقرأ نصوصاً محددة معزولة عن إطارها الكلي بعيون سائح غربي معاصر يزور العالم محملاً بمواقفه المسبقة ونظرته الاستعلائيّة تجاه الآخرين، على نحوٍ جعل من كتابه «تجربة قاتلة للرّوح» بأكثر مما كان أيّ من تلك الكتابات التي استهدفها بالذمّ. وهو فوق ذلك، لم يقدّم لنا نصيحة محدّدة بشأن استهلاك نصوص الديكتاتوريين: فتارة هي مكتبة شيطانيّة جهنميّة ينبغي خنقها ومحاصرتها، وطوراً يؤكد أهمية قراءتها كوثائق تاريخيّة تعبّر عن مراحل مهمة عاشتها الشعوب التي حرمها المولى نعمة العيش في ظلّ جلالة ملكة بريطانيا، أو برعاية الإمبراطور (الأميركي) أو كليهما معاً، قبل أن ينتقل بنا إلى عالم التاريخ الممكن المقلوب: «لو لم تصرّ أم جوزيف ستالين على أن يتلقى تعليماً صارماً، لكان تجنّب قراءة نصوص ماركس ولينين، وانتهى عندها مجرد زعيم عصابة محليّة في تبليسي»، أو «لو سقط موسوليني ميتاً في بداية الثلاثينيات لربما كان التاريخ أرحم به» وما إلى ذلك من عويل. وبدلاً من تقديم تحليل سياسي أو فكريّ للنصوص المختارة هدفاً للانتقاد، أو توضيح العلاقة الممكنة لتأثير تلك النصوص في إيصال أصحابها إلى السلطة، ينصرف تركيز كالدر في أدب الديكتاتور إلى الجوانب التقنيّة البحت للكتابات مثل عناوين الفصول، عدد تكرار كلمات معينة، وحتى لون الحبر الذي طُبعت به الهوامش، وصعوبة التركيبات نحوياً أو بلاغيّاً. وهو يخلط قاصداً بين إنتاج مفكّر كبير مثل لينين – الذي جمعت أعماله الكاملة في 42 مجلداً – ونص «كفاحي» لهتلر، الذي أعلن دائماً أنه «ليس كاتباً ولن يكون»، ورواية منسوبة للرئيس العراقيّ الراحل صدام حسين. خلط لم يترك للقارئ حتى ذلك الخيط الذهبي الوحيد الذي يمكن الإمساك به عبر الكتاب، وهو أن نصوصاً كثيرة للديكتاتوريين الموصوفين كُتبت قبل وصولهم إلى الحكم (لينين، ستالين، ماو، هتلر، موسوليني)، إذ ما يلبث كالدر ويفسده عندما يقدّم لنا نماذج «الطغاة» الصغار في تركمانستان، وكوريا الشماليّة والعراق وليبيا وكوبا، وجميعهم نشروا كتابات محدودة بعد تمكّنهم من السلطة فقط.
والمفارقة الأكبر في كتاب خُصّص لذم «أدب الديكتاتور» أنه في تقديم الطغاة متتابعين، نصّب كالدر نفسه ديكتاتوراً يُصدر أحكاماً نهائيّة على الأشخاص والتاريخ والأمم والنصوص، من دون عناء الاستعانة بتقييم أحد آخر، مؤيد له أو معارض لا فرق، أو تقديم مرافعة مهما كان منطقها لتبرّر مواقف حادة لم يجتهد ولو للحظة في إخفاء مقدار الكراهيّة والحقد المتسربل بها. وهو وإن لم يدّخر وسعاً في قصف لينين وماو وستالين وكاسترو، إلّا أنّ غضبه الحقيقي فيما يبدو كان موجهاً لشخص كارل ماركس تحديداً بوصفه الأب الروحيّ والمرشد الفكري للقادة الثوريين في القرن العشرين، وإن كان لم يدرجه في فصل واحد مستقل كيّ لا يتعارض مع عنوان الكتاب. رغم قراءته لمقتطفات من أعمال «الطغاة» المزعومين، يبدو كأنّه لم يقرأ ماركس، واكتفى بذمّه من خلال حقيقة أن 11 شخصاً فقط حضروا جنازته عند وفاته عام 1883، وأن الملايين قضوا نتيجة أفكاره الدمويّة (بينما لم يسمع كالدر بهيروشيما، ودريسدن، ومذابح الاستعمار الغربي في الهند والكونغو وأنغولا وموزمبيق وفلسطين ومذابح الحربَين الأولى والثانيّة والاعتداءات على العراق وسوريا وليبيا، وعشرات الحروب المعلنة والسريّة للمخابرات المركزيّة الأميركية حول العالم). وهو ينكر بشخطة قلم تأثيره الفكريّ الهائل في نقل البشر من ضيق الفلسفات المثاليّة إلى رحاب الماديّة التاريخيّة، ومن نقد أعراض الرأسماليّة إلى تفكيك منظومتها بالكامل، ومن تعميم فهم معمّق للصراعات الطبقيّة في صياغة الوقائع والأحداث. أمور وإن اختلفت مواقف كثيرين منها، إلّا أنّ المؤيّدين والمعارضين توافقوا على أهميتها، بل راهنيّة ما تقدمه من أدوات نقديّة.
إخفاق كالدر لا يقتصر في «أدب الديكتاتور» على المسائل الأدبيّة والفكريّة فحسب. بسبب إصراره على شخصنة الأمور وشيطنة الأفراد على نسق البروباغاندا البريطانيّة – الأميركيّة المبتذلة، أضاع زاوية هامّة لفهم سايكولوجيّات ومنطلقات «طغاته». فهو يغفل عينيه تماماً عن حقيقة أن من استهدفهم في نقده ـــ حتى أكثرهم دمويّة ـــ كانوا بشكل أو آخر نتاج منظومات جماعيّة معقّدة، فكأنّك تنتقد ترامب اليوم من دون النظر في حقيقة أنه مجرد فرد يقف على فوهة إمبراطوريّة كاملة، أو أن تنتقد جونسون كأنه ليس نتاجاً طبيعياً للدولة العميقة التي تمسك بخناق بريطانيا منذ عشرات السنين.
لا يمكن بسهولة تحديد دائرة القرّاء المستهدفين بهذا الكتاب. فهو لن يكون مقبولاً أكاديميّاً، وليس فيه عمق كافٍ لاستكشاف أيّ من حيوات الأفراد الذين صنّفهم كالدر طغاة، ويهمل عدداً كبيراً من «الطغاة» الذين أنتجتهم ورعتهم وحمتهم الإمبراطورية الأميركية عبر العالم (لم يسمع بالتأكيد بـ«مهنتي كملك» للملك حسين أو مذكرات محمّد بن راشد حاكم دبي، فهؤلاء وفق مسطرته العمياء ليسوا طغاة)، ونصّه متحذلق لغوياً يمزج بين الكليشيهات القديمة والحديثة، وفيه إسراف في وصف التصوّرات (لاحظ مثلاً وصفه المقعر في خمسة أسطر للأدب الذي أنتجته المرحلة الستالينيّة)، ولا تخفى نزعته الاستشراقيّة حتى على القارئ الغربيّ، ولا يقدّم أي تفسيرات يُعتدّ بها لظاهرة أنّ بعض نصوص الطغاة ما زالت موضع اهتمام الأجيال الجيدة: مثلاً رغم رداءته الأدبيّة الظاهرة، بقي تداول «كفاحي» ممنوعاً في ألمانيا منذ 1945 حتى وقت قريب. وعندما سمح بنشره، كان ذلك ضمن طبعة خاصة حوصر فيها نص هتلر الأصلي بتعليقات لجنة عريضة من عشرات المؤرخين الألمان الذين كانت غايتهم حماية القارئ غير المتخصّص من الأفكار الخطيرة. «أدب الديكتاتور» لن يُعينك أبداً في فهم أسباب ذلك. ربما كان الأجدر بكالدر أن يضع مواهبه في الكتابة حيث بدأ: في كتابة مقالات إرشاد للسيّاح الغربيين عن المواقع الإكزوتيكيّة، بدلاً من أن يهدر وقت الجميع في اجتراره لبروباغندا الحرب الباردة الفاسدة.