انعكست العلاقة الوثيقة بين الإنسان العربي وحيوانات بيئته على عالمه النفسي، كما تجلت في إرثه الثقافي المتنوع منذ مدة مبكرة من تاريخه. التوسل بلسان الحيوان، ليس بالفن الجديد على الثقافة العربية، ولم يكن كتاب «كليلة ودمنة» أول عهده بها، وقد بلغ هذا الفن ذروة سامقة في توظيف رمز الحيوان في السياقات الإنسانية المختلفة ومحاكاة قيمته الرمزية المتولدة عن تشاكله مع عالم الإنسان، ما منح المبدع إمكانات تعبيرية أرحب لتحقيق المقاصد المختلفة، فالسرد القصصي على لسان الحيوان من أقدم الأنواع القصصية الموجودة في التراث القصصي العربي التي تعزو الأفعال والأقوال إلى الحيوان بمقاصد كثيرة، اجتماعية وسياسية وثقافية تنتقد الوضع القائم، محمّلةً بمواقف وتصورات كشفت أبنية الفكر السياسي، وجدلياته مع ما يحدث في الواقع السياسي والثقافي تحت إطار نصوص سردية قصصية على لسان الحيوان، تمتزج فيها الحقيقة بالوهم، والجدّ بالهزل، والواقع بالخيال.

من هنا يمكن قراءة باسم سليمان في مجموعته القصصية «فراشات بيضاء» (دار ميسلون) وفهم ميله إلى الانجذاب نحو الأبطال غير البشريين، إذ يجعلنا نستعيد حكايا الجدات في حكاياته الصغيرة والغريبة، وأجوائها وتكشفاتها المفاجئة ورؤيتها المتبصرة. في حكايات سليمان التي تتناول المخلوقات ومصائرها، تتشوّش الحدود بين الذات والموضوع، وبين الحي والجماد، وتفضح دعوى التفوق كأن هذه الحكايات تقرّ بقوة الأسئلة بدلاً من الإجابات.
هنا لا يمكننا إلا أن نتذكر كتاب «كليلة ودمنة» الذي صدر في القرن الرابع الميلادي، سارداً حكاياته على لسان الحيوانات عبر سلسلة من القصص التخيلية والأسطورية التي تتناول أكثر من موضوع، وأهمها علاقة الملك بشعبه وبعض المواعظ الشعبية والحكمة السياسية، فماذا أراد باسم من هذا التناص أو المحاكاة؟
عبر قصصه القصيرة، يجتهد صاحب «جريمة في مسرح القباني» في طرح قضايا معاصرة، ولكن بلسان الحيوانات والحشرات والطيور. هل لأنّه ما من طريقة أخرى لقول كل ما أراد قوله أو بعبارة أخرى ما أراد إيصاله؟ لم يعطِ سليمان البطولة للبشرية التي تقتتل على الأرض وتقاتل من أجل السلطة والمال بل أعطاه لكائنات صغيرة وبريئة. وكما يوضح باسم، فإنّ القصص في «فراشات بيضاء» هي أنسنة مضادة أو لنقل إنّ القاص الإنسان تنحّى جانباً وترك الكائنات الحية تقصّ تجربتها الخاصة، فالدجاجة تكسر بيضتها في قصة «وسكتت عن الكلام المباح» احتجاجاً على جدال الفلاحين السفسطائي كأنها شهرزاد التي ترفض الاستمرار في ترويض شهريار الإنسان ولو كان السياف/ الثعلب مسروراً بالقضاء عليها.
حاول باسم تحويل المقولات الشعبية إلى حكايات غير عادية لها كثير من الإيحاءات والدلالات، موقظاً القارئ من استرخائه اللذيذ بحسب مالارميه عبر إستراتيجية سردية، شارحاً كيفية استنباط هذه الدلالات التي تتشعب على قسمين: الأول بقراءتها في زمن قولها، أي العودة إلى تاريخ القول وبيئته الثقافية التي تفتح مغاليقه، والثاني استجرارها إلى عصرنا لتنطبق مع آنية أفكارنا.
يمكن القول هنا إنّ سليمان يلعب لعبة الدلالة والإيحاء بذكاء، فالحكاية حكايتنا وليست حكايتنا، وبين «البين بين» يبني سليمان نصه القصير على كثرة الإحالات وتوالي الإشارات المعرفية في النص السردي، فيحتشد بتداخل الثقافات، وبالتالي تداخل الإشارات. ففي قصته «قائمة طعام»، كانت قناعة الحمل الثائر على المرياع بأن الخطر الوحيد الذي يهدد الخراف هو الذئاب، لكن عندما هرب من الحظيرة إلى الغابة، وجد النمر يأكل الخراف. وهنا ترتج ثقافة الحمل الثائر على تقاليد الخراف، لكن هذه المعرفة الجديدة لم تؤتِ ثمارها لأن النمر كان قد التهمه. إن بنية القصص عند سليمان تتجاوز في رأيه التعريف النقدي للقصة بأنها تكثيف لحدث معين منتقى كشريحة من نهر الأحداث، بل إنّ بنية القص في المجموعة تقوم على العكس من ذلك بمدّ لحظة الحدث الكثيفة والموجزة كما يفعل الرسام مع اللون لتغطية مساحة معينة في اللوحة. من هنا جاءت القصص كضربات ريشة تعبيراً عن لاإمكانية قولها إلا بتلك الطريقة كضربة سكين بحسب تعبيره.
يطرح قضايا الإنسان المعاصر مؤنسناً عناصر الطبيعة البكر


يلعب العنوان في قصص سليمان لعبته الاستهلالية كشيء أولي، فهو والحال كذلك جزء مهم من المبنى الإستراتيجي للنص، وعلاقته بالنص بالغة التعقيد من حيث طاقته التوجيهية. وهنا تجدر الإشارة إلى سلطة العنوان التي لا يمكن تجاوزها، فهو أحد المفاتيح المهمة التي يمتلكها النص وحده ليدخل القارئ إليه وبالتالي يصبح قادراً على فك شيفرته ودخول عوالمه المتداخلة.
يستخدم سليمان ضمير الشخص الثالث أو ضمير «الهو»، فهو يسمح للقارئ بأن يلتحم بعالم النص، ليقدّم رؤية مغايرة عن رؤية الآخرين وتبقى هوية السارد مختفية، ما يساعد على تأكيد القول القصصي أو تثبيت الأفكار المختلفة داخل النص وهذا الضمير مرتبط بالحكاية منذ ولادتها.
يتميز السرد عند سليمان بالتكثيف من دون مماطلة للوصول إلى ما يريد قوله، حيث امتاز بتعدد حقوله الدلالية وبإثارته للتأويلات المختلفة لدى القارئ حتى يكاد يصبح شريكاً في إنجاز النص. أفاد سليمان من مهارته في اللعب على الشكل والبناء والتكثيف واختزال الحدث المحكي مستغلاً مهارته اللغوية في القص، وهذه الأطر مجتمعة مكّنته من فتح فضاءات دلالية جديدة متنوعة عبر اللعب على الإيحاءات والرموز التي تمثلها الشخصيات، وبالتالي اللعب على الفضاء الافتراضي الذي تمنحه إياه اللغة، إضافة إلى الإحالات التناصية التي تفتح مسارات واسعة للتأويل.
بكثير من الحذق والهندسة والكثافة والاقتصاد والتركيز في اللغة والحوار والفكرة والصورة القصصية، يقدم باسم سليمان فراشاته البيضاء، وهو يطرح قضايا الإنسان المعاصر شؤونه وشجونه مؤنسناً عناصر الطبيعة البكر لتنطق بما لا نجرؤ على قوله وتحتج على ما لا نستطيع الاحتجاج عليه عبر قصة تشبه الحكاية، وحكاية هي قصتنا جميعاً.