في خضم الغياب التام للمساءلة، والأدلة المتزايدة على جرائم الحرب في قطاع غزّة، وفي ظل تدمير القطاع الطّبي نتيجة للحرب والحصار الإسرائيلي القاسي، ومع غياب الخبراء الجنائيين، إلى جانب عدم توفر الموارد اللازمة للتعرف على الجثامين مثل اختبار الحمض النووي، تتشكّل عقبات هائلة أمام التعرف على رفات الشهداء. وتزداد التعقيدات في المقابر الجماعية التي تشكل أساساً تحدياً كبيراً لعمليات التحقيق الجنائي، حيث تكون الجثث غالباً في حالة تحلل شديد، ما يجعل تحديد هويتها وتحديد سبب الوفاة أمراً صعباً. نستعرض في هذا المقال أهمية التحقيق الجنائي في كشف أسرار المقابر الجماعية التي يحاول العدو الاسرائيلي إخفاء أدلتها والعبث بها في أعماق الأرض
حُفر إخفاء الأدلة
كشف مكتب الإعلام الحكومي في قطاع غزة، في بيان، عن «العثور على مقبرة جماعية ثالثة داخل مجمع الشفاء الطبي وانتشال 49 شهيدًا منها». وبذلك يرتفع عدد المقابر الجماعية التي تم العثور عليها داخل باحات المستشفيات في غزة إلى 7، واحدة في مستشفى كمال عدوان، وثلاث في مجمع الشفاء الطبي، وثلاث في مجمع ناصر الطبي.


وانتُشل من هذه المقابر حتى الآن 520 شهيداً. وأوضحت وزارة الصحة في غزة في بيان «أننا وجدنا جثثاً ممزقة جراء دهس آليات الاحتلال لأجساد الشهداء وعثرنا على رؤوس بلا أجساد في المقابر الجماعية في ساحات مجمع الشفاء». وأضافت: «الفحص الظاهري للجثث المستخرجة من المقابر الجماعية أظهر أن العدد الأكبر يعود لمرضى تم حرمانهم من تلقي الرعاية الصحية». كما إن طواقم الدفاع المدني في غزة «وجدت بعض الجثث مربوطة الأيدي، والبطن مفتوحاً ومخيطاً بطريقة تخالف الطرق الاعتيادية لخياطة الجروح، مما يثير شبهات حول اختفاء بعض الأعضاء البشرية». وتم أيضاً رصد جثة لأحد المواطنين «يرتدي ملابس عمليات؛ مما يثير الشكوك حول دفنه حياً». وتم كذلك «رصد تكبيل أيدي بعض الشهداء برباطات بلاستيكية، وارتدئهم أردية بيضاء استخدمها الاحتلال كملابس للمعتقلين في مستشفى ناصر، وتوجد علامات إصابة بطلق ناري بالرأس؛ مما يثير الشكوك حول إعدامهم وتصفيتهم ميدانياً».

كيف تدمر أكياس البلاستيك الأدلة وتجعل تحديد الجثة أمرًا صعبًا؟
يعدّ ضمان الحفاظ على الأدلة من بين التدابير الرئيسية التي أمرت محكمة العدل الدولية سلطات الاحتلال الإسرائيلية باتخاذها من أجل منع الإبادة الجماعية، إلا أن قوات الاحتلال تتعمّد التلاعب بالأدلة وتدميرها لا سيما تلك المتعلقة بجرائم المقابر الجماعية. وأوضح الدفاع المدني في غزة أن الاحتلال عمد إلى إخفاء الأدلة على جرائمه في مجمع ناصر عبر تغيير الأكفان البلاستيكية أكثر من مرة، كما عمد جيش الاحتلال إلى دفن عدد من الجثث في مجمع ناصر في أكياس بلاستيكية على عمق 3 أمتار، مما سرع تحللها. وأوضح أن الاحتلال أخرج جثامين شهداء كانت الطواقم الطبية دفنتها خلال الحصار، وغيّر أكفانها، وأعاد دفنها في المقابر الجماعية.
يبحث الخبراء عن أدلة على وجود علامات ربط أو إصابات «تقييد» على بقايا الهيكل العظمي


عند دفن الجثة في أكياس بلاستيكية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تدمير الأدلة الحيوية الحاسمة وجعل تحديد هوية الجثة أمرًا صعبًا. فالأكياس البلاستيكية يمكن أن تسرع عملية التحلل الطبيعي بإنشاء بيئة رطبة، مما يسرّع نمو البكتيريا والفطريات. وهذه العملية السريعة للتحلل يمكن أن تدمر الأدلة الجينية، مما يجعل من الصعب تحديد هوية الجثة من خلال الأساليب الجنائية التقليدية. إلى ذلك، يمكن أن تمنع الأكياس البلاستيكية الجثة من التفاعل مع التربة المحيطة والكائنات الحية الدقيقة، مما يعيق عمليات التحلل الطبيعية التي يمكن أن توفر أدلة جنائية قيمة. ونتيجة لذلك، قد تتحلل الجثة إلى عظام، مما يعقد المساعي لتحديد سبب الوفاة أو تحديد هوية الفرد. في مثل هذه الحالات، قد يضطر الخبراء الجنائيون إلى الاعتماد على أساليب بديلة مثل سجلات الأسنان لتحديد هوية المتوفى.



كشف سرّ جرائم التعذيب قبل دفن الجثث
يلعب التحقيق الجنائي دوراً حيوياً في كشف جرائم التعذيب، خصوصا عندما يتعلق الأمر بجرائم دفن الجثث في مقابر جماعية عبر إجراء فحص تفصيلي لبقايا الهيكل العظمي والأنسجة الرخوة بحثًا عن علامات الصدمة، مثل الكسور أو الجروح أو الكدمات أو الحروق. وقد تشير هذه الإصابات إلى الاعتداء الجسدي أو التعذيب قبل الوفاة، كما يتم توثيق جميع الإصابات الموجودة على الرفات بعناية، بما في ذلك موقعها وحجمها وشكلها وأي أنماط قد توحي بإيذاء متعمد أو تعذيب. كما يوفّر «تحليل كسور العظام» نظرة ثاقبة لطبيعة الإصابات التي لحقت بالضحية. على سبيل المثال، قد تشير كسور العظام الطويلة إلى صدمة قوية، في حين أن كسور اليدين أو القدمين أو الأضلاع قد تشير إلى جروح دفاعية. كما يبحث الخبراء عن أدلة على وجود علامات ربط أو إصابات «تقييد» على بقايا الهيكل العظمي. إلى ذلك، يمكن يساعد تحليل السموم لسوائل أو أنسجة الجثة للكشف عن وجود أدوية أو مواد كيميائية يمكن استخدامها لإعاقة الضحية أو تعذيبها.