«نكون أو لا نكون» نطق لسان هاملت من فكر شكسبير. «تعا ولا تجي» كتب عبيدو باشا تيمّناً بعاصي الرحباني، «شكسبير الشرق». جميلة الجلسة مع عبيدو باشا، في كواليس تلفزيون، على متن طائرة، في لوبي فندق. تحليلاته وإبداعه بات تاريخ وتأريخ المسرح اللبناني والعربي. صباح كل يوم، يحمل في شنطته أكلاً ليشبع بطون الهرر الصغيرة، وكتباً تشبع الأذهان، وممثلاً غاب وأباً حاضراً وجداً عاشقاً وناقداً ومفكراً... يأتي إلى «روضة» منفتحة على بحار اللانهاية، مخنوقة بإسمنت مدينة متهاوية وراكضة نحو اللاشيء.اتصل سليمان بختي، مدير «دار نلسن»، وطلب منه كتابة شيء يأتي ولا يأتي، يكون ولا يكون، كتكريم وتقدير في مئوية ولادة عاصي الرحباني. قبِل الكاتب ولم يغص في الماديات، وخصوصاً أنّ الموضوع يتناول عاصي الرحباني، عملاق اعتلى جبال لبنان، وأساطير همبابا وغلغامش. كان شرط عبيدو الوحيد أن يتناول كل مواضيع عالم آل الرحباني الغامض، الغني، السلس والواضح بكل حرية. عمل عبيدو باشا كمستشار آل الرحباني على مدى عشر سنوات، وهو يرى نفسه ابن الدار.
عندما أنهى الكتابة، أعاد قراءة الكتاب (تعا ولا تجي ـــ دار نلسن) ثم أعاد الكتابة من الفصل الأخير إلى الفصل الأول! بهذه الكلمات وصف عبيدو عالماً لطالما أثار غيرة وإعجاب كثيرين، كما أثار فضول وحسد المصطادين في الماء العكر. يقول إنّه وضع في هذا الكتاب الكثير من التفاصيل غير المعروفة. تفاصيل لم يجرؤ كثيرون على البوح بها، وهي ليست متعلقة فقط بسلوك بيت الرحباني الفني، لكن بالسلوك الشخصي وتأثيره على السلوك الثقافي. يقول: «كنت في هذه المرحلة من حياة عاصي الرحباني من المساهمين في المعاملات الطبية. أتى إليّ زياد الرحباني وطلب منّي أن تصل صور دماغ والده الليلة إلى باريس إلى البروفيسور الذي يتابعه. كنت حينها أكتب في «السفير»، فبعثتها إلى المكتب كي تصل في أسرع وقت.


أنا جزء من هذه المروية، وعندما أروي، أروي جزءاً من تاريخي. لا أكتب سيراً ذاتية، لأنه يمكن أن يكون لديّ منهج يقوم على تداخل الأشياء ببعضها. أعرف أنّ هناك ناساً من آل الرحباني لا يحبون هذا الكتاب لأنهم معتادون على البروباغندا. إنهم عظماء من دون شك، لكن يجب وضعهم تحت المساءلة النقدية. هذا الكتاب يقول ما لهم وما عليهم من دون أن أتقصّد ذلك. آل الرحباني هم أصحاب تاريخهم، وهذا الكتاب يطرح العلاقة بين الأخوين. أيقنت أثناء الكتابة أن عدداً من الناس حاولوا أن يقولوا إن منصور شيء وعاصي شيء آخر. كل ما حاولت قوله إننا كلبنانيين وُهبنا أخوين ــــ هما قبل أن يكونا أخوين ــــ هديةً ثمينة، فلماذا العالم يريد أن يتدخّل ويفرّق بينهما. عملت على مواضيع لم يتطرّق إليها أحد قبلاً مثل عاصي الممثل. ضمّ الكتاب فصلاً كاملاً بعنوان acting عن أداء عاصي في فيلمين، وعدم ظهوره على المسرح كممثل، وأربط هذه الظاهرة بانتماء عاصي الأرثوذوكسي. دخلت إلى خجله كمؤمن، وأنا سعيد أنّني غصت في هذه التفاصيل، ولا تهمني الآراء». كم هو صعب البوح بهذا الكلام. فلا القهوة الصباحية، لا المازة اللبنانية ولا صور البرج، تردّ المغترب بأفكاره وحنينه إلى لبنان، فقط صوت فيروز وعظمة الكلمة واللحن تشد القلوب نحو هذا البلد الصغير، الذي ـــــ رغم مرضه المزمن ــــ يسحر ويبوح بأسرار كتبت... لكن بماء. لا يمكنني أن أقرأ كلمات جبران من دون أن أسمع صوت فيروز يهمس في أذني. المشكلات التي ورثتها هذه العائلة من حقوق حصرية وما شابه، تعني فقط العائلة الرحبانية. أما إرث الرحابنة، وهنا أتجرأ وأقول الرحابنة، شاملاً عاصي، ومنصور والياس، فقد دخل كل بيت، واللاوعي الجماعي المشرقي... ليس فقط اللبناني، ولكن السوري والأردني. عاصي الأسطورة، عاصي الكبير، عاصي الذي لم يتكرر، لكن يجب أن نقول الكلام نفسه عن منصور والياس. هؤلاء، الرحابنة، ربما لديهم تركيبة جينية يجب درسها بالمنظار المكبّر وغرسها في عقول الأجيال الآتية.
يرتكز الكتاب إلى الأيديولوجيا والسياسة وخصوصاً في الفصل الذي يتناول اللهجة البيضاء، عبر تموضع أخويّة حول الأخوين على رأسها سعيد عقل. هكذا، سادت أعمالهم وأغانيهم بيئة ريفية تُرجمت بشخصيات البطل المناضل والمختار المصلح وبنت العيلة... كل هذه الشخصيات رافقت أجيالاً، عاشت واستمرت على أشرطة ممغنطة إلى أن وصلت إلى منصات التواصل الاجتماعي. وقد نبعت من تأريخ الأخوين لسرديات وقصص الضيعة ووضعها في سياق أدبي أكاديمي، حاك تاريخ لبنان وتراثه. غصت بين صفحات «تعا ولا تجي» واستصعبت كل سؤال طرحته على الكاتب، ولو بدا سهلاً بتركيبته. من هو عاصي مثلاً؟ يجيب عبيدو باشا: «عاصي أيقونة من أيقونات الفن اللبناني. لكن لا يحق لأحد أن «يشيله بالكمشة». ونحن كلبنانيين وكعرب نغرف بالكمشة. كل موضوع يجب أن يُفكَّك لإعادة تركيبه، من وجهة نظر أصحابه وليس من وجهة نظري، وهذا ما تعلّمته من تجربتي». ثم خرج من فمي كليشيه نمطي آخر: كيف ترى العلاقة بين عاصي ومنصور؟ يجيب: «ناس حفروا في الصخر خلال تجربتهم، وبماذا انتهت؟ بدعاوى مرفوعة في المحاكم وشتائم على وسائل التواصل الاجتماعي. نشرت المجموعة الكاملة لمسرحيات آل الرحباني، لكن النسخة الثانية اختفت من الأسواق. لا أعرف طبيعة تفاصيل الدعوى التي أقامتها فيروز، لكنني علمت أنّه تم سحب الكتب من السوق، وهذا حرم اللبنانيين من الوقوف بتأنٍ أمام نصوص عاصي ومنصور الرحباني، ولا تستمع إلى الكلام الفارغ بأنّ هذا كتب تلك الجملة وذاك كتب الجملة الأخرى. الاثنان كتبا. أنا كنت في لجنة في وزارة التربية، كانت تعمل على إدخال أعمال الرحابنة إلى المناهج المدرسية. ثم تبددت هذه اللجنة لأن أولاد منصور كانوا يريدون أن يتكلموا عن مرحلة عاصي ومنصور، ثم مرحلة منصور الذي أكمل بعد وفاة عاصي. قسم كبير من شباب اليوم يعرف فيروز بفضل زياد، الذي استطاع أن ينقلها من مرحلة إلى أخرى، فأصبحت مطربة الجيلين. هذا الأمر نجح في الأغنية، لكنه لم يفلح في المسرح».
تكلمنا كثيراً، راقبنا الهرر تتراقص على طاولتنا، تذكرت شعر بودلير، تواعدنا عبيدو وأنا، بأن نكمل الحديث، بعيداً من المنطق، أبعد من السريالية... ربما نتناقش في المرة المقبلة عن أشعار محمود درويش ومسرحيات بريشت. ابتسمنا، ذهبت نحو المدينة المدوية المكتظة بالأفكار والمشاريع والصراخ. «أؤمن أن خلف الليل العاتي الأمواج يعلو السراج»، فالأمواج ما زالت تنتظر، الهرر تتلطى تحت الطاولات، تحت طاولات مدرسة الحياة، مدرسة آل الرحباني التي حفرت في الزمان قبل أن يحفرها الزمان، وأعادها إلينا عبيدو باشا، بصوت عاصي المدوي، واضعاً الـ «ع» على العين.

* كاتب ومخرج وممثل مسرحي