لم تكد تمضي ساعات على صبيحة ذلك اليوم الغريب في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حتى كانت «نيويورك تايمز»، الصحيفة الأميركية الأهم، قد اختارت الجانب الذي ستكون صوته إلى العالم: «إسرائيل». وبطبيعة الحال، فإنّ انحياز «التايمز» إلى الدولة العبريّة لم يكن مفاجئاً ولا مستحدثاً ولا خارج سياق التاريخ، فهذه الصحيفة الأعرق، عُدّت دائماً لسان حال النخبة الأميركيّة المتصهينة، وسلاحاً ثقيل الوطأة في حروب البروباغندا تطلقه تلك النخبة لتجريف وعي الأميركيين العاديين، وتسميم نظرة الشعوب الأخرى لكل قضية عادلة اختارت أن تناضل لأجلها. قبل السّابع من أكتوبر، كان المحتّم أن يمضي انحياز مماثل بلا اعتراض من أحد. فهذه هي أميركا، وتلك نخبتها، و«التايمز» متحدث شبه رسمي باسم هيمنتها. لكنّ ثمة شيئاً في دماء الغزيين المسفوكة هذه المرّة أثار غضب عدد من القرّاء ودفعهم إلى التحرك أبعد من إغراق بريد الصحيفة بالرسائل الغاضبة أو إلغاء الاشتراكات. هكذا احتل عشرات منهم في 9 تشرين الثاني (نوفمبر)، ردهة الاستقبال في مقرها الرئيس في قلب نيويورك، واتهموا الصحافيين وجاهة بتورّطهم في حملة تغطية منحازة إلى الدولة العبرية تُمكّن وتبارك حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها القوات الإسرائيلية على غزة. استمرّ هؤلاء القرّاء النبلاء في إزعاج «التايمز» ووصل بهم الأمر في آذار (مارس) الماضي إلى تنظيم هجوم منسّق على مقرّها الرئيسي، فاحتل نحو مئة وخمسين منهم ردهة الاستقبال حاملين لافتات كُتب عليها «أكاذيب» و«أوقفوا الطباعة: فلسطين حرّة»، فيما كان عشرات آخرون منهم قد قيدوا أنفسهم بالسلاسل وأقاموا متاريس من المخلفات وأثاث الطرق لمنع شاحنات التوزيع من مغادرة منشأة طباعة «التايمز» في منطقة كوينز.
كل تلك المحاولات لوقف صوت القتلة لم تنجح بالطبع، إذ دائماً ما تتدخل شرطة نيويورك، فتسمح للصحافيين بالدخول إلى مقر عملهم للاستمرار في تبييض جرائم الجيش الإسرائيلي وتلفيق التهم الأبشع للمقاومة الفلسطينية، وتُفتح الطرقات أمام الشاحنات التي أوصلت دائماً النسخ الورقيّة إلى نقاط التوزيع، وإن متأخرة بعض الشيء. لكنّ ذلك دفع مجموعة منهم إلى ابتداع منهجية جديدة في الاحتجاج على صهينة «التايمز» عبر إطلاق عنوان نقيض لها، وجريدة تشبه إخراج «التايمز» وطريقة طباعة حروفها، سمّوها «نيويورك كرايمز» (وبالعربيّة «جرائم نيويورك» بدلاً من الاسم الأصلي «أزمنة نيويورك»). لكنها تحمل كل مادة لن تجرؤ «التايمز» على نشرها: مقالات مؤيدة للفلسطينيين، وانتقادات لاذعة لمواد «التايمز» المنحازة إلى القتلة، ومقابلات مع أصوات لا يُسمح بسماعها في قنوات الإعلام المعتادة، مع قوائم دورية لتحديث أسماء الشهداء الفلسطينيين الذين يتم التعرّف إليهم في مستشفيات قطاع غزّة. فإذا لم تنجح في إسكات صوت القتلة، فلِمَ لا تسرقه وتكن نقيضه؟
نشر القرّاء الغاضبون ستة أعداد مطبوعة من «نيويورك كرايمز» تلقّفها سكان المدينة بفضول، كما أطلقوا لها موقعاً إلكترونياً لعرض المآخذ على «التايمز» بشكل منهجي، بما في ذلك تحليلات مفصّلة لتغطيتها لفلسطين، وخلفية تاريخية واسعة عن تواطئها مع الإمبراطورية الأميركية من غواتيمالا وفيتنام إلى العراق وأفغانستان.
استهداف «نيويورك تايمز» تحديداً لا يعني أن صحف أميركا الأخرى أكثر عدالة، لكن هذه الصحيفة بالذات وفي مكانتها الاستثنائية ضمن بيئة الإعلام العالمي وكأنها صوت وزارة الخارجية الأميركيّة، وهي في لغتها المدروسة بدقة، وطريقة تغطيتها المحترفة في انحيازها، أصبحت معياراً أساسياً للإعلام الليبرالي في الغرب والعالم الخاضع له ثقافياً، وسمّمت غرائز الناس الفطرية الأقرب إلى العدالة، وحوّلت فعل القراءة الأساسي إلى عملية تزوير شامل ومتمهّل للوعي. لكنّ السؤال الآن، إذا نجحت مجموعة صغيرة من القرّاء الغاضبين بأدواتها البسيطة في مقارعة صحيفة الإمبراطورية الأولى، فلِم يخنع الكتّاب والصحافيون والمثقّفون ولا يحاولون فعل الشيء ذاته؟ أرُفعت الأقلام وجفّت الصحف؟