يفسر بعض الماركسيين انتشار «داعش» وفقاً لتفسيرات ثقافية لا اقتصادية ــ اجتماعية
مع ظاهرة انتشار «داعش»، هناك آراء تطلق بأن «داعش» يفسر بـ «القرآن» و«السيرة النبوية» وابن تيمية وابن عبد الوهاب وحسن البنا وسيد قطب. الغريب أن أصحاب هذا التفسير للسياسة عبر النصوص هم من الماركسيين حيث تفسر السياسة عند ماركس بوصفها بنية فوقية تستند إلى بنية تحتية اقتصادية ــ اجتماعية. الماركسي غير معذور بذلك. أما آخرون، من ليبراليين وغيرهم، فيمكن أن يكونوا في إطار التفسير الثقافي للسياسة. ولو أن الليبرالية في الغرب قد تجاوزت ذلك، وأصبحت تسلّم بالتفسير الماركسي وإن كانت تأخذه لحسابها الخاص. لا يستطيع هؤلاء الماركسيون، ويجب وضعهم بين العديد من الأقواس، تفسير اضمحلال الحزب الشيوعي العراقي بين يوم 1 أيار 1959، عندما أنزل مليون شخص (أغلبهم شيعة) لشوارع بغداد وانتخابات عام 2005، عندما فازت الأحزاب والحركات الشيعية العراقية بأغلبية مقاعد البرلمان، ولم يستطع الحزب الشيوعي أن ينال سوى مقاعد معدودة كانت أقل من أصابع اليد الواحدة، حملوا حملاً عبر قائمة مشتركة مع آخرين، كما لا يستطيعون تفسير ارتفاع حزب الدعوة من كتاب مؤسسه السيد محمد باقر الصدر: «فلسفتنا» عام 1959 الذي يبنى على التضاد الفلسفي مع الماركسية إلى حزب يتولى السلطة مع نوري المالكي وحيدر العبادي. هذه «الماركسية» تنحدر إلى مسارات تحليلية لا علاقة لها بالماركسية، تفسر السياسة بالثقافة، وتفسر تحولات الناس الفكرية – السياسية بـ«الجهل» و«التخلف» و«ضعف الثقافة»، وبأنهم «غنم» أو «طرش»، وهي مصطلحات لا يمكن أن يتبناها إلا فاشيون ونازيون على طراز موسوليني وهتلر، ينظرون إلى الناس والمجتمع من منظار «القائد الملهم»: الدوتشي والفوهرر ويقتلون المخالف الفكري ــ السياسي تماماً كما يفعل الداعشيون، وليس ماركسيون يؤمنون بالجماهير وبصراع الطبقات وبالديموقراطية.
ينتشر هذا التفسير الثقافي للسياسة أيضاً عند آخرين من غير الماركسيين. موجة بدأت مع انحسار «الإسلام السياسي» منذ سقوط حكم مرسي في القاهرة، حيث قدرت إحدى الصحف الغربية بأن «حكم الإخوان المسلمين قد أنتج مليون ملحد بين المسلمين المصريين في عام واحد»، تماماً كما أنتج البعثيون في بغداد ودمشق موجة من النفور من العروبة، وأيضاً كما يلاحظ كل من يزور إيران الخمينية ــ الخامنئية، بأن الشباب الإيراني أقل تديناً بكثير من الشباب العرب. هذه الموجة تنتج رد فعل فكري ــ ثقافي ــ سياسي يأخذ شكل «إلحاد سطحي» و«يسارية طفولية» و«علمانية» لا تقوم على بنائية فكرية بل على رفضية فكرية لـ«آخر»، وتتحدد كمضمون من خلال الرفضية وليس البناء المضموني الذي يقوم ليس بدلالة (الآخر)، بل بدلالة (الذات). يمكن أن يكون ذلك ليس فقط مؤشراً على انحسار الإسلاميين، وإنما على بدء موجة يسارية جديدة، ولكن إن لم يتم تحويلها من «رفضية» إلى (بنائية)، فإن مصيرها سيكون التلاشي مثلما حصل مع «اليسار الجديد» الذي نشأ عند العرب كرد فعل على هزيمة حزيران 1967، أحزاب وحركات قومية: «حركة القوميين العرب» التي تحولت كل فروعها للماركسية، مثلاً، ثم انتهى ذلك لتبدأ موجة إسلامية في فترة ما بعد وفاة الرئيس عبدالناصر عام 1970.
في السبعينيات كانت بلدة الموحسن، على الفرات قرب مدينة ديرالزور جنوباً، تسمى بـ «موسكو الصغرى» بسبب طغيان وجود الشيوعيين هناك على أي اتجاه سياسي آخر بما فيه حزب البعث الحاكم. وفي انشقاق 3 نيسان 1972 وقف شيوعيو الموحسن كلهم مع جناح خالد بكداش الموالي للسوفيات، برغم الأرجحية الواضحة لجناح المكتب السياسي، في مدينة ديرالزور. في عامي 2012 و2013 كان هناك نمو كبير لـ«جبهة النصرة» في الموحسن ثم لاقى «داعش» أرضاً خصبة هناك في عام 2014. هل يفسر هذا التحول الفكري ــ السياسي بـ«الثقافة» أم من خلال تفسيره بالتهميش الاقتصادي ــ الاجتماعي لسكان منطقة الفرات حيث الثروات الأساسية لسوريا: الماء والقطن والنفط؟
*كاتب سوري