لم أرَ اللوبي الإسرائيلي في حالة الهلع والذعر التي هو فيها هذه الأيّام. قد تكون أفدح كارثة لحقته منذ التأسيس في عام 1963. صحيح، كانت فضيحة الجاسوس الإسرائيلي، جوناثان بولارد، في عام 1958، كارثيّة لإسرائيل لكنها لم تثر اهتمام الرأي العام الذي لا يتابع قضايا السياسة الخارجيّة (فقط نحو 2 أو 3% يتابعون السياسة الخارجيّة عن كثب). آراء وانطباعات الشباب هي الأهم عند المُعلنين في التلفزيون لأنهم صانعو القرار في المستقبل. الصحافة العربيّة السائدة تعاملت مع انتفاضة الطلاب بحذر شديد أو بتجاهل. «الشرق الأوسط» تجاهلتها لأيام قبل أن تضع خبراً صغيراً عنها، ثم شنّت بعد ذلك حملات تضليل وتشهير بها على صفحة الرأي. الكاتب اللبناني نديم قطيش، عبّر عن امتعاضه لأن التنديد بإسرائيل وإهانة اليهود يمرّان من دون عقاب في أميركا. كاد أن يوحي أن لوبي «حماس» يسيطر على الكونغرس والإعلام وأن الصوت الفلسطيني يمتلك كل عناصر الثقافة والسياسة هنا. اللبناني الآخر، أياد أبو شقرا (في صحيفة «الشرق الأوسط» نفسها) كتب مقالة طويلة في تحليل ظاهرة انتفاضة الطلاب من دون ذكر فلسطين. بدا له أن الاحتباس الحراري والكورونا حرّكا الانتفاضات. خافت أنظمة الخليج المُطبّعة (سرّاً أو جهاراً) أن تتحرّك مشاعر الطلاب في بلادها. لكن لا خوف على الأنظمة من الطلاب العرب. الشعب العربي كلّه (أو معظمه) في حالة غيبوبة بالرغم من تعاطفه مع شعب فلسطين. الجامعات ساكنة في البلدان العربيّة. أولاً، ليس عفواً أن التحرّكات والاعتصامات كانت في جامعات يتميّز طلابها بالثراء. عندما نتحدّث عن جامعات نخبويّة نتحدّث عن جامعات يدفع فيها الطلاب (في جورجتاون أو كولومبيا أو جامعة نيويورك) ما يقارب المئة ألف دولار سنوياً. هؤلاء يقوون على افتراش الأرض لأسبوع أو أكثر. هذا لا يعني أن الطلاب في الجامعات الأخرى لا يشاركون زملاءهم في تحسّس آلام الشعب الفلسطيني لكن نسبة أوقات الرفاهية أقلّ عندهم. طلاب الجامعات الحكومية الأقل نخبويّة يعملون على مدار الأسبوع، وبعضهم في مهن عمّاليّة. هؤلاء لا يمكن لهم أن يخسروا يوم عمل كي يفترشوا الأرض. ليس سهلاً عليّ الإقرار بهذا الجانب الطبقي لأن ذلك قد يبدّد المسحة الرومانسيّة التي نضفيها على الاحتجاجات التي ترفع شعارات وأعلام فلسطين. لكن ملاحظة الخلفيّة الطبقيّة تحدّ من جموحنا في التوقّعات. ليس الأفق ثورياً بسبب هذا العامل. في الستينيّات، خسرت جامعة ييل بضعة أفراد من الطلاب في حرب فييتنام، فيما خسرت جامعة مدينة نيويورك مئات من القتلى في الحرب البعيدة (الجسم الطالبي فيها من خلفيّة فقيرة). هناك حدود للأفق السياسي للتحرّك. صحيح، أعانت بعض الحركات اليساريّة الاحتجاجات من خارج الجامعة ولهذا أقفلت جامعة كولومبيا أبوابها مانعةً من لا يمتلك بطاقة الجامعة فتح أبواب المباني.
نعمت شفيق هي محمد أركون وهي اللورد أحمد في بريطانيا وهي أي وزير أو وزيرة من أصل مسلم أو عربي في حكومات محور الإبادة الغربي... هي كل عربي وعربيّة ينحنيان من أجل الصعود


ثانياً، لقد تركت جلسة نعمت شفيق (رئيسة جامعة كولومبيا) أمام أعضاء الكونغرس وقعاً كبيراً أشعل حرم جامعة كولومبيا كما أشعل غيرها (لا تقلّلوا من المشهديّة التوتاليتاريّة للكونغرس الأميركي وهو يستدعي رؤساء الجامعات ومدراء أقاليم مدارس الأولاد كي يستجوبوهم عن أهواء وهتافات الطلاب). لم يكن صدفة أن إدارة بايدن أرسلت رجلاً أسود وامرأة سوداء لرفع يد الفيتو في مجلس الأمن لحماية حرب الإبادة الإسرائيليّة-الغربيّة من العقاب. السود في أميركا في غالبهم باتوا شديدي العداء لإسرائيل. 38% من البيض يقفون بالكامل أو غالباً مع إسرائيل، تتدنّى النسبة إلى 13% فقط بين السود (حسب استطلاع «بيو»). نعمت شفيق هي محمد أركون وهي اللورد أحمد في بريطانيا وهي أي وزير أو وزيرة من أصل مسلم أو عربي في حكومات محور الإبادة الغربي. هي فيليب حبيب (نقل عنه زئيف شيف وإيهود يعاري في كتابهما عن حرب لبنان أنه قال لبيغن إنه كان دوماً صهيونيّاً. عندما سألتُ حبيب عن ذلك في سنوات تقاعده نفى لكنني لم أصدّقه). شفيق هي كل عربي وعربيّة ينحنيان من أجل الصعود في السلّم التراتبي الوظيفي الطبقي. حرّكت نعمت شفيق مشاعر غاضبة ليس فقط بين الطلاب العرب وإنما بين الأكاديميّين العرب.
دعني أستفيض: العرب في الأكاديميا ومراكز الأبحاث نوعان. معظم العرب في مراكز الأبحاث في واشنطن من عرب الطاعة الذين يتبعون (مثل إعلاميّي وإعلاميّات لبنان) السعودية والإمارات لما للدولتيْن من نفوذ تمويلي على مراكز الأبحاث. عندما يظهر بول سالم من «مؤسّسة الشرق الأوسط» أمام الكونغرس ويطالب بعقوبات ضد لبنان بسبب مقاومة إسرائيل فإنه ينال الرضى من اللوبي الإسرائيلي ومن سفارتي السعوديّة والإمارات. لكن الأكاديميّين العرب في أميركا تقدميّون متعاطفون مع فلسطين بقوّة. تكون منبوذاً لو أنتَ مؤرخ عربي لا تتعاطف مع فلسطين في الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع. هذا يسري على الأكاديميّين اللبنانيّين (ومن كل الطوائف) بالرغم من وجود أفراد صهاينة هنا وهناك (كما أن هناك أفراداً لبنانيّين يعملون في منظمات صهيونية في عواصم الغرب). نعمت شفيق، لأنها عربيّة، جاهرت بمواقف بزّت مواقف رؤساء جامعتيْ بنسلفانيا وهارفرد. هي في موقع دوني (بسبب خلفيّتها) ومن أجل ذلك تحتاج إلى إظهار الولاء أكثر من سابقاتها. هي أدانت أساتذة في جامعتها وهي تحدّثت في العلن عن عقوبات مسلكيّة ضد أستاذة مع أن هذه الإجراءات تكون سريّة.
ثالثاً، كانت نوادي «تلاميذ من أجل العدالة في فلسطين» ساكنة في السنوات الماضية لكنها في كل الجامعات كانت تقيم نشاطات في ذكرى أسبوع الأبارثيد في إسرائيل. حرب إبادة غزة حرّكت الشباب في مختلف الجامعات. لم يسبق أن رأيتُ طلاب الجامعات في حالة غضب كما أراها اليوم. وحالة الحنق تمتد للطلاب اليهود وهذا ما عطّل سرديّة اللوبي عن أن التحرّكات معادية للسامية.
رابعاً، انتقلت قيادة العمل السياسي العربي من رجال أعمال لبنانيّين محافظين في الستينيات والسبعينيّات إلى اللجنة العربيّة الأميركيّة لمكافحة التمييز في الثمانينيّات والتي حاولت الربط بين المهنيّين والحرفيّين العرب وبين العامّة، إلى الحقبة الحالية حيث تقود نساء عربيّات (معظمهنّ فلسطينيّات مولودات في الولايات المتحدة) النشاط السياسي العربي. هؤلاء هم القادة الفعليّون. نستطيع أن ننوّه بتأييد التنظيم اليهودي التقدّمي «أصوات يهوديّة من أجل السلام» أو بتأييد القلّة من السود في جامعات النخبة لكن القيادة الفعليّة هي للنساء العربيّات، في الجامعات وخارجها. هؤلاء هنّ اللواتي نظّمنَ أكبر تظاهرة من أجل فلسطين في تاريخ الجمهوريّة (في واشنطن في نوفمبر الماضي). هذه الحدّة في الطرح والثبات على المواقف والمبدئيّة القاطعة هي سمة للنساء الفلسطينيّات القادة. نحن الرجال كنّا أكثر حذراً في زماننا، وكان بعضنا يذكّر الإعلام بصورة دوريّة أنه أميركي. هؤلاء يرتدون هويّتهم الفلسطينيّة والعربيّة بفخر ولا يسمحون للصهاينة بوضعهم في مواقع دفاعيّة. هن اللواتي رفضن فخّ معادلة: «هل تدين حماس؟» وأداروها لإدانة إسرائيل. النسوة عرفن كيف يجذبن الطلاب لأنهن يتكلمن الخطاب التقدمي الجذري. هن يعرفن بالتقاطعات بين أشكال وأنماط النضال العرقي والجندري.
خامساً، كان مُحبطاً للآمال أن ترى جامعة بير زيت تتضامن مع جامعات الغرب. كان دور جامعة بير زيت أن تُرشد العمل النضالي من أجل فلسطين لا أن تكون تابعاً لجامعات الغرب. لكن جامعات الأردن وموريتانيا كانت سبّاقة، وقبل اشتعال جامعات الغرب، في التعبير عن الاحتجاج والغضب العربييْن.

لم يسبق أن رأيتُ في أكثر من أربعين سنة هذه الاحتجاجات الطالبيّة حول مسألة سياسة خارجيّة. صحيح، كانت هناك احتجاجات في حرب فييتنام لكنها كانت تتعلّق برفض الطلاب التجنيد


سادساً، لا نبالغ في تأثير هذه الانتفاضة، ولا نقلِّل من تأثيرها. لم يسبق أن رأيتُ في أكثر من أربعين سنة هذه الاحتجاجات الطالبيّة حول مسألة سياسة خارجيّة. صحيح، كانت هناك احتجاجات في حرب فييتنام لكنها كانت تتعلّق برفض الطلاب التجنيد الإجباري: لم يكن التعاطف مع الشعب الفييتنامي بقدر ما كان مع الشباب الأميركي الرافض للتجنيد. وكان طلاب الجامعات النخبويّة (الحاصلون على حظوة إعفاءات من التجنيد) يحتقرون المجنّدين الفقراء من جامعات غير نخبويّة. هذه الانتفاضة ستؤثّر على الحزب الديموقراطي مستقبلاً لكنها ستزيد من التمييز بين الحزبيْن: الحزب الجمهوري سيزيد من عناد تأييده لعدوان إسرائيل فيما سيتأرجح الحزب الديموقراطي وقد يتعرّض لحرب ردّة تعزّز نفوذ الصهاينة الذين يقودونه اليوم (جرت حرب ردّة في حزب العمال البريطاني ضد جيريمي كوربن). لكن النظر إلى الاحتجاجات على أنها ستؤثّر في مسار التحرير والعدالة في أرض فلسطين ينفي عن الشعب الفلسطيني قدرته وإرادته على التغيير.
سابعاً، استخدام العنف ضد الطلاب سيغيّر من صورة الغرب بصورة عامّة (والعنف سُجِّل ضد طلاب في ألمانيا وفي أميركا وفي إيطاليا). سقطت أوراق الزيف الديموقراطي التي كانت تستر عورات النظام السياسي الديموقراطي الغربي. حريّة التعبير هنا مسموحة على ألا تؤثّر على المسلّمات. اليساريّون (مثلي) يتمتّعون بحرّية تعبير لأننا لسنا إسلاميّين. عندما كان الخطر شيوعياً لم يتمتّع اليساريّون بحريّة تعبير. الدولة الرأسماليّة تستعمل العنف لحماية مشروع استيطاني عنصري أجنبي: لأن المشروع الصهيوني يدخل في ضمن عقيدة «الناتو». تمويل حكومات «الناتو» لوسائل إعلام في بلادنا («درج» و«ميغا فون» و«رصيف» وغيرها) يستهدف الإفراط في تغطية سلبيّة للبلدان المعادية لأميركا وإسرائيل وحركات المقاومة من أجل التقليل من خطورة المشروع والعدوان الصهيوني. هذه الوسائل تجعل من حكم إعدام في إيران (وليس في السعوديّة) أكثر استحقاقاً للتغطية من إعدام عشرات الفلسطينيّين في غارة إسرائيليّة.
ثامناً، المشروع السياسي للعرب والمسلمين الأميركيّين تغيّر كثيراً. هؤلاء لا يتحرّكون بسقوف دول الخليج التي تجعل من حلّ الدولتيْن أقصى الطموح الفلسطيني (وطفق معظم كتّاب الرأي في لبنان من دعاة «حل الدولتيْن»، من جهاد الزين إلى كتّاب «الشرق الأوسط» إلى كتّاب إعلام الناتو «البديل»). هؤلاء في جامعات أميركا يهتفون «من النهر إلى البحر» لأنهم، بجد، يتوقون إلى تحرير كل فلسطين (ويؤيّدهم في ذلك كل الناشطين من أجل فلسطين بمن فيهم غير العرب). هذه الشعارات الجذريّة ستنعكس على قدرة إسرائيل على الترويج لبضاعتها السياسيّة، أو قدرة دول الغرب على نشر حجج وذرائع سياساتها الخارجيّة.
تاسعاً، ستنهزم الحركة الطالبيّة هناك لأن الدولة البوليسيّة الديموقراطيّة ستكشِّر عن أنيابها. لكن اللوبي الإسرائيلي في ورطة باتت أكبر.
عاشراً، لا نبالغ في التأثير الاقتراعي لهذه الانتفاضة. الشباب لا يقترعون إلا بنسب قليلة وهناك استطلاع جديد أظهر أنه في فئة الشباب 2% منهم فقط يعتبرون السياسة الخارجيّة عنصراً مؤثّراً في تقرير الاقتراع (ويتعاطف، حسب استطلاع جديد لـ«نيوزويك» 39% من طلاب الجامعات مقابل 11 مع إسرائيل ويرفض 40% الإجابة. ونسبة رفض الإجابة قد توحي بإمكانيّة لتغيير الأجواء حسب المناخ السياسي).
* كاتب عربي - حسابه على «إكس»
asadabukhalil@