متى كان ذلك اليوم؟ يبدو كأنّه من زمنٍ سحيقٍ مضى ننتزعه من ذكريات الذاكرة. من كثرة ما نرى من نماذج تملأ الساحات العربية والفضاء الإلكتروني، نكاد ننسى زمن المناضلين الثوريين العرب من الماركسيين الشيوعيين الذين كانوا يملأون الدنيا ويشغلون العالم بكفاحهم المسلّح، على نهج تشي غيفارا، ضد الإمبريالية الأميركية وربيبتها إسرائيل الصهيونية. أيام وديع حداد وجورج حبش وغسان كنفاني وعربي عواد في السبعينيات ليست بعيدة زمنياً عنّا. أربعة أو خمسة عقود فقط تفصلنا عنها. لن نتكلم هنا على الردّة الواسعة النطاق التي اجتاحت صفوف الشيوعيين العرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 وحوّلتهم إلى اعتذاريّين عن ماضيهم الفكري والسياسي، وقلبتهم إلى متبنّين ودعاة لليبيرالية الأميركية المتوحشة (العفيف الأخضر نموذجاً). لن نتكلم هنا على ذلك «الجيل القديم» من الماركسيين الذين كانوا يصرّون على وصف أنفسهم بـ«التقدميّين» في مواجهة «الرجعيّين» العرب المتحالفين مع رجال الدين والرأسماليين والاستعمار، قبل أن يتحوّلوا إلى مأجورين وأدوات في خدمة من كانوا يذمّونهم.
تدهور مستوى الإلحاد والملحدين العرب من بعد ذلك إلى أسفل سافلين! نوعان من «التنويريّين» نراهم هذه الأيام في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. الأول منهما مجموعات الملحدين العرب واللادينيين الكارهين للإسلام والمتخصّصين في سبّ وشتم نبيّ الإسلام والقرآن والصحابة وآل البيت. وبسبب خطابهم الحادّ الذي يحتوي على قدر كبير من البذاءة، يتركّز نشاط هؤلاء على «يوتيوب» و«تيك توك»، بينما يغيب عنهم الدعم الرسمي والحكومي ويُحرمون من منابر وفضائيات تابعة مباشرة أو محسوبة على أنظمة عربية. الأمثلة على هؤلاء كثيرة، ومن أبرزهم أخيراً جورج بول ومحمد صالح وهشام المصري وأحمد حرقان. موقف هؤلاء «التنويريين» من القضية الفلسطينية مخزٍ ويتراوح بين التأييد الصريح لإسرائيل في حروبها ضد الأمّة العربية والتشفّي اللئيم بخسائر الشعب الفلسطيني وضحاياه في غزة. طبعاً، لا يخلو خطاب هؤلاء من التأكيد (والتمنّي) على أنّ النصر الأبدي هو حليف إسرائيل «المتقدّمة المتحضّرة» على العرب «الهَمَج الرّعاع الإرهاببين»! ويتكامل عمل هؤلاء مع مجموعات من «العابرين» المتحوّلين من الإسلام إلى المسيحية برعاية جماعات من الأقباط المصريين في المهجر.
النوع الثاني، والأسوأ، من «التنويريّين»، هذه الأيام، هم أولئك المتغطّون بقشرةٍ من المجاملة والنفاق يخفون بها حقيقة عقائدهم ويستعملونها للظهور بثوب «النّخبة» و«كبار المفكرين». من أبرز هؤلاء: سيد قمني، إبراهيم عيسى، يوسف زيدان، فاطمة ناعوت، إسلام بحيري، مصطفى راشد وتركي الحمد. نحن هنا لا نجادل في حق هؤلاء في نقد التراث أو الشريعة الإسلامية أو حتى الدّين ذاته أو في الإلحاد. ما يهمّنا في هذه المقالة هو الموقف من القضية الفلسطينية. وبرأينا، لا يمكن الجمع أبداً بين الدعوة إلى الحضارة والتقدّم والعقل والإنسانية وبين اتخاذ موقف مائع وملتبس من قضية فلسطين، فضلاً عن التأييد الضمني أو الصريح لإسرائيل! «دولة إسرائيل» هذه التي يمتدحونها، تلميحاً أو تصريحاً، هي في الحقيقة مشروع استعماري استيطاني عنصري بغيض، ودولة قامت على أسس دينية أسطورية. ذلك واضح لكل منصف ولكل ذي عينين، ولكل إنسان لم تتلوّث فطرته بدعاية الصهيونية ورعاتها.
إبراهيم عيسى في بدايات صعوده الإعلامي، وصولاً إلى ثورة يناير في مصر، كان يتبنّى خطاباً معادياً لإسرائيل، قريباً من الخط الناصري. لكن سرعان ما دفعه بُغضه لـ«الإخوان المسلمين» إلى الاصطفاف المتحمّس خلف الجيش المصري الذي أطاح «الإخوان»، ومن ثم الارتماء في حضن النظام بلا مواربة، وصولاً إلى قناة «الحرّة» الأميركية ودولاراتها. قال عيسى أكثر من مرة إن «إسرائيل دولة ديموقراطية»، وآخر تصريحاته قبل أيام كان «مفيش حبة عرق واحدة حتنزل من جبين عسكري مصري عشان معبر رفح» في تماهٍ كامل مع الخطاب الانعزالي المصري الذي بدأ من أيام السادات.
يوسف زيدان، بنى شهرته على خطاب مشكّك في المكانة الدينية لفلسطين والقدس بالنسبة إلى المسلمين. ولا يمكننا أن نعدّ تصريحه الوقح بحق مُحرّر القدس صلاح الدين الأيوبي «من أحقر الشخصيات في التاريخ» ناتجاً من بحث علمي أو تاريخي، بل في سياق النهج المشبوه ذاته المعادي لفلسطين وقضيتها.
الشيخ المعمّم مصطفى راشد يدور في نفس فلك يوسف زيدان، وخصوصاً تصريحه بأن «المسجد الأقصى ليس في فلسطين، بل في الجعرانة في السعودية على بعد 25 كلم من المدينة المنورة»!
إسلام بحيري، صاحب فكر «نقد التراث» و«تجديد الخطاب الديني»، قال أخيراً من على شاشة mbc السعودية: «اللي عملته حماس يوم 7 أكتوبر مالوهش دعوة بالإسلام».
السعودي «التنويري» تركي الحمد، له قرون استشعار جيدة جعلته يدرك مبكراً توجّهات العهد الجديد في السعودية، فمنذ 2017 بدأ هجومه الضاري على كل ما يتعلق بفلسطين وقضيتها، وقال: «فلسطين ليست قضية العرب الأولى بعدما باعها أصحابها»!
المحامي المصري الذي يريد «تنقية الإسلام من شوائب التراث» من أجل خطاب إنساني حضاري، أحمد عبده ماهر، قال في فيديو مسجّل: «حينما قلت إن المولى عزّ وجلّ وعد بني إسرائيل بهذه الأرض المقدسة، التي هي أرض فلسطين، قلتها بناءً على آيات في القرآن الكريم». وأضاف: «لازم تفهم أنّ أوّل واحد أعطى الكيان الإسرائيلي الحقّ في أورشليم هو سيّدنا عمر بن الخطاب... والشخص الثاني الذي عمل كده الناصر صلاح الدين، والشخص الثالث الذي عمل كده واعترف بإسرائيل هو أنور السادات»، وختم كلامه قائلاً: «وكلّهم على صواب».
فاطمة ناعوت، التنويرية جدّاً، لها مقال عام 2018 مليء بالأكاذيب والمغالطات التاريخية خلاصته أن اليهود في مصر « لوحقوا وطُردوا من وطنهم، وهُجِّروا قسراً من ديارهم، وأُحرقت مؤسساتُهم ومصانعُهم وذاقوا صنوفَ الويل، حتى أوشكوا على الفناء التام من أرض مصر».
ولو شئنا أن نسترسل في ذكر وتبيان المواقف المخزية لهؤلاء المذكورين، وغيرهم من دعاة «التنوير» الجدد، من القضية الفلسطينية، لطال الأمر. وكلها تدور حول محور واحد: ربط التنوير بالتطبيع. إمّا أن تكون إرهابياً أصولياً أو مطبّعاً متقبّلاً للرواية الصهيونية.
وهذه قصة «تكوين»؛ صار لهذا التيار راعٍ رسمي ومموّل سخيّ. صار لهم من الآن عنوان وأبٌ وأمّ.
لا يجرؤ هؤلاء «التنويريون» على نطق كلمة واحدة فيها انتقاد لأنظمة مشيخات القرون الوسطى في الخليج، تلك الأنظمة التي لا تعرف الانتخابات حتى لجمعيات الطلبة، ولا الشفافية، ولا تداول السلطة، ولا المعارضة، ولا الصحافة الحرة، ولا الرأي المستقل، ولا التظاهرات السلمية، ولا النقابات المهنية، ولا اتحادات العمال، ولا الأحزاب السياسية... الأنظمة التي يختفي المواطن فيها في غياهب السجون لسنين طويلة لمجرد «بوست» كتبه على «فايسبوك» أو نشره على منصة «اكس»!
تلك أنظمة «مستنيرة». الظلاميون والرجعيون هم فقط حركة حماس وحزب الله. الذين يقاومون ويقدّمون الشهداء دفاعاً عن قضية فلسطين هم الإرهابيون المتطرّفون الذين لا بدّ من استئصالهم حتى تتقدّم البلاد العربية وتلحق بركب حضارة المشيخات.
لكن ما يجري من تضامن حقيقي وقويّ مع الشعب الفلسطيني في أنحاء كبيرة من العالم، لا شك يشكّل صدمة وخيبة أمل لـ«التنويريين العرب» هؤلاء. أميركا اللاتينية ليست إسلامية متطرفة. البرازيل، كولومبيا، تشيلي وفنزويلا، لا يمكن اتهامها بـ«الإسلام السياسي»، ولا جنوب أفريقيا، ولا جمهورية إيرلندا. بل حتى في أميركا ذاتها وأوروبا حركات الطلاب والنقابات كلها تؤيّد كفاح الشعب الفلسطيني.
إنها قضية حق وعدل. إنها قضية الإنسان، أيّها التنويريون الكاذبون.

* كاتب من الأردن