أتممت مطالعة ثلاثية الدكتور كمال خلف الطويل: «زيارة جديدة لتاريخ عربي»، وهي تتحدّث عن تجربة حكم القوميين العرب خلال القرن العشرين، وتحديداً تجربتَي: جمال عبد الناصر، وحزب البعث. ولأن التجربة القومية في الحكم تتعرّض لحملة لا تهدأ ولا تخفّ حدّتها، رغم مرور السنوات، كما أن تاريخ هاتين التجربتين تعرّض لغارة من الصياغات القطعية والمسطحة، تصمهما عموماً، عن تقدير أنها تريح ولاية الخلفاء وهيمنة السلاطين ونفوذ المماليك، فكان ذلك محرّك الدكتور الطويل ليقدِم على الكتابة عنهما، بعد رصده لعمليات التشويش المقصودة، فالقرنُ العشرون حافل بالمنقوص والغائب والمنحول والمزوّر، وكذلك الصحيح، ما جعل جيل الشباب - خزان الرجاء وهو المقصود - في حالة تيه، فضلاً عن لجوء ذلك الجيل - غالبيته - لمصدر وحيد، وهو: وسائل التواصل الاجتماعي وما اكتظّت به من ترّهات وأكاذيب وخلط!

والدكتور الطويل هو بالأساس طبيب أشعة، لكن أجواء السياسة شدّته ووقائع التاريخ جذبته. ولثلث قرن من ممارسة عمله في الإشعاع بالولايات المتحدة الأميركية، حيث يقيم، جعلته خلال كتابته لهذه الثلاثية يلقي بظلال مهنته على ما خطّ. فقام بالتصوير - فوق الصوتي والرنين المغناطيسي والمقطعي - ليعيد مشاهد بعينها، ويرسم كيفية بنائها، متفهماً أن أرضية السياسة حيث جرت الوقائع والحوادث هي: الجغرافيا، وأن خلفية السياسة حيث فاعلية الظروف على أجوائها هي: التاريخ. وعليه، فلقد بحث الدكتور الطويل في كل ركن، حتى وإن كان شائكاً وملتبساً. هكذا تمكّن من أن يخترق بأدواته من التصوير داخل الجسم الإنساني إلى الحياة داخل أروقة القصور، والملفات الخارجية، وخطط الدفاع، ودسائس المخابرات، وطموح الملوك والقادة.
وهو لم ينتظر أن يتقاعد من عمله (من مواليد 1952) حتى يبدي رأياً، أو يعرض معلومة، أو يحلّل حدثاً، فقد كان رأيه حاضراً: مكتوباً ومسموعاً في قضية من القضايا الملحّة على هواجس الرأي العام في العالم العربي. فهو حيث ابتعد وحيث كان، لا يزيح بصره عن وطنه العربي متعقّباً طريقه، منخرطاً في شجونه، متكلّفاً المشقة من حين وآخر كاتباً أو متكلماً: سواء في صحف «السفير» و«الأخبار» (اللبنانيّتين) و«القدس العربي»، ومجلة «المستقبل العربي»، وغيرها، أو كذلك في قنوات فضائية: «الجزيرة» القطرية، و«الميادين» و«NBN» اللبنانية، وسواها.
وأزعم بأنه منذ رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل في رحلته نحو الأبدية (الأربعاء 17 فبراير 2016) لم أبتهج بصدور كتاب، كصدور ثلاثية الدكتور الطويل. فقد كان ضمن مشاريع الأستاذ هيكل أن يكتب عن «سياسات عبد الناصر العربية، وسياساته الداخلية، والتكوين النفسي والثقافي له، ورؤيته الاجتماعية» (الرجاء مراجعة كتابي: «علامات على طريق طويل» - فصل «الورق النائم تحت الريح»). وظنّي بأن الدكتور الطويل أكمل ما نواه الأستاذ هيكل، فثلاثيته تغطي أجزاء كبيرة من المشروع، بلغة عربية مضيئة ومشرقة، دقيقة الكلمة، ومستفيضة الكلام.
والثلاثية تندرج ضمن الكتب التي تسجل مراحل من التاريخ، فهي مليئة بالقصص والحكايات.
يكفي هنا شهادة الأستاذ هيكل، عندما أشار ببنانه صوب الدكتور الطويل في مبنى جريدة «السفير» (الاثنين 2 ديسمبر 2013): «إنّ الدكتور كمال خلف الطويل هو من أثق في تصحيحه على ما كتبت وقلت»


ولكن الأهم هو كيفية عرض الدكتور الطويل للتفاصيل بأسلوب سلس على السطور، متناولاً صدقها بزيادة البحث في أحوالها وأحداثها، والدنوّ أكثر من قومها وبطانتها، والاعتناء بدواعيهم ومداركهم.
وهذا ما يسترعي الاستفهام عن: متى تمكّن هذا المؤرخ الموهوب الاستثنائي من أن ينجز ذلك كله وأين وكيف؟ ما أعانه على أداء مهمته:
أولاً: هضاب من الملفات التي تضمّ لقاءاته وحواراته مع بعض صنّاع القرار وراسمي السياسات في عالمنا العربي، وكذلك الغربي، كانت مؤثرة في تلك الحقبة من التاريخ.
ثانياً: تلال من المذكّرات والذكريات والتسجيلات والأفلام الوثائقية والوثائق عن ذلك العصر من تاريخنا العربي بعيون عربية.
ثالثاً: جبال من المذكّرات والذكريات والتسجيلات والأفلام الوثائقية والوثائق عن تلك العقود من القرن المنصرم، بعيون بريطانية وأميركية وفرنسية وكذلك إسرائيلية.
وعندما قرّر أن يلتقط قلمه ويجلس ليدوّن ثلاثيته، كان مهتماً بأن يكون خلف كل كلمة برهان، وكل رواية وثيقة، وكل خبر مصدر.

ملاحظات هامشية لا تؤثّر على المتن
من المتعارف عليه بين المهتمين بالشأن العام، سواء سياسيّون أو صناعُ قرار أو أساتذة تاريخ، أن يقدّموا سجلّاتهم وأطروحاتهم كي يدقّقها الدكتور الطويل (آخرهم كان محمد فايق في مذكّراته، وزير الإرشاد القومي المصري سبتمبر 1966 - إبريل 1970، وزير الدولة للشؤون الخارجية إبريل - أكتوبر 1970، وزير الإعلام نوفمبر 1970 - مايو 1971). وعليه، فمن الصعوبة أن يجد الباحث المدقّق زلّة أو خطأ أو هفوة في ما يكتبه ويقوله الدكتور الطويل، ويكفي هنا شهادة الأستاذ هيكل، عندما أشار ببنانه صوب الدكتور الطويل في مبنى جريدة «السفير» (الاثنين 2 ديسمبر 2013): «إنّ الدكتور كمال خلف الطويل هو من أثق في تصحيحه على ما كتبت وقلت».
وكما يحلو للبعض في القاهرة، أو الدكتور الطويل نفسه، بأن يطلقوا عليّ «مؤرّخ هيكل»، وهو بالعموم صحيح، ولي كل الشرف، وعليه سأقوم ببعض الإيضاحات، كان الأستاذ هيكل ضمن خلفياتها أو وقائعها:
1- ذكر الدكتور الطويل في الفصل الأول «انقلاب ولّد ثورة»، صفحة 47: «أحسن محمد حسنين هيكل في وصفه (عبد الناصر) بعبارة جامعة: "رجلٌ اتّسعت همّته لآمال أمّته"».
والحقيقة هي: أن الأستاذ هيكل ذهب يزور ساطع الحصري، المفكر القومي البارز، وكان يقيم في فندق «لا فينواز»، وهو فندق صغير عتيق مبناه على طراز عصر النهضة الإيطالي في شارع الأنتكخانة بوسط القاهرة. ولقد حمّله ساطع الحصري مجموعة كاملة من أعماله مهداة إلى جمال عبد الناصر، وكان المؤرّخ العجوز يقدّمها بإهداء منه لعبد الناصر ويقول له: «أخيراً، وجدنا رجلاً تتّسع همّته لآمال أمّته». ولقد ذكر الأستاذ هيكل تلك الحادثة في موضعين:
الأول: كتاب «يوميات عبد الناصر عن حرب فلسطين» - فصل «الحاضر والمستقبل: عروبة عبد الناصر - عن طريق فلسطين»، الصادر سنة 1978.
الثاني: كلمة الأستاذ هيكل في ندوة «ثورة 23 يوليو: قضايا الحاضر وتحدّيات المستقبل» - مايو 1986.
2- جاء في الفصل الثاني «عبد الناصر وأميركا: 1952 - 1961»، على لسان بيل ليكلاند، الملحق السياسي في السفارة الأميركية بالقاهرة، صفحة 62: «حصل محمد حسنين هيكل، من سفارتنا، على رحلة إلى الولايات المتحدة. لم يسبق له أن ذهب إلى أميركا». كان المقصود رحلة الأستاذ هيكل إلى الولايات المتحدة، أكتوبر - ديسمبر 1952. والخطأ هنا يعود على ليكلاند وشهادته الشفهية في إبريل 2010، فالذاكرة خوانة، والأيام تباعدت عن وهج الأحداث. والحقيقة أن العبور الأول للأستاذ هيكل للمحيط الأطلسي مسافراً إلى الولايات المتحدة كان في 1951. وبالعودة إلى أرشيف مجلة «آخر ساعة»، نجد للأستاذ هيكل ثلاثة تحقيقات منشورة عن رحلته تلك:
أ- تحقيق عن الرأسمالية التي تحكم أميركا.
ب- تحقيق عن التمييز العنصري ضد السود في أميركا.
ج- تحقيق عن الجريمة المنظّمة في أميركا.
3- جاء في الفصل التاسع «عبد الناصر بين الهزيمة والرحيل»، صفحة 413: «وأما الثالثة فهي لمحمد حسنين هيكل، التي أول ما أشهرها كان في كتاب له صدر في عام 2000، ومفادها أن عبد الناصر أبلغه تلفونياً، قبيل منتصف الليل، بقراره، ويطلب صياغة خطاب التنحّي، وباسم شمس بدران خليفة، وأنه من أقنعه، صباح اليوم التالي، الجمعة 9 حزيران/ يونيو، بلا منطقية اختيار بدران، وبصواب اختيار زكريا محيي الدين بديلاً».
والكتاب الذي قصده الدكتور الطويل هو «عام من الأزمات» - فصل «كتاب ولقاء وملاحظة».
والملاحظة هنا: أن الأستاذ هيكل ذكر تفاصيل ذلك اليوم في كتابه الضخم «1967: الانفجار»، فصل «يوم طويل... طويل!»، والصادر سنة 1990 عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر».
وقد بدأه من تباشير الصباح في الساعة السادسة والنصف صباح يوم الجمعة 9 يونيو، إلى أن لملم الليل أطرافه.
4- جاء في الفصل الثالث عشر «عبد الناصر والإخوان وما بعد»، صفحة 690: «... إلى تحريض واشنطن على تقويض عبد الناصر (حديث الأمير فيصل مع السفير الأميركي في آب/ أغسطس 1964: هيكل) لم تهدأ محاولات الخلاص من الرجل وما مثّل». والملاحظة هنا توضيحية للباحث المهتم والقارئ المتابع: فقد أورد الأستاذ هيكل ما جرى بين الأمير فيصل والسفير باركر هارت في كتابه «عواصف الحرب وعواصف السلام»، فصل «جوليان إيمري»، وثيقة صادرة من الخارجية الأميركية رقم 36651/43 بتاريخ الأربعاء 19 أغسطس 1964، كان مسرح حديثهما في قصر شبرا التاريخي (أنشأه الشريف علي آل عون، شريف مكة 1905-1908) بمدينة الطائف.
5- جاء في الجزء الثالث، الفصل الثامن «بعث 1963»، صفحة 356، وهي تحوي على شهادة حازم جواد: «سمعت لأول مرة باسم السيد إيليا زغيب عندما كتب محمد حسنين هيكل في إحدى مقالاته الأسبوعية المشهورة بعنوانها "بصراحة" التي يكتبها في عدد "الأهرام" ليوم الجمعة». ولعلّي لا أذيع سرّاً، فقد كلفّتني أسرة الأستاذ هيكل بجمع كل ما صدر عن الأستاذ هيكل خلال عمله في «الأهرام»، وبالفعل فقد تمّ جمعه وطباعته في 16 جزءاً، وكتبت مقدمة لكل جزء، كذلك قامت «الأهرام» بطبع كشاف تحليلي لهذه الأجزاء، وبالعودة إليها، لم يُعثَر على ما قاله حازم جواد، أحد كبار قياديّي حزب البعث، ووزير الداخلية العراقي 1963، فلا وجود في كل مقالات الأستاذ هيكل للمدعو إيليا زغيب، ولم أعثر إلا على «ثكنة محمود زغيب بالأشرفية» في مقال «هذا ما تريده أميركا» بتاريخ الثلاثاء 17 يونيو 1958. وما انطبق على شهادة ليكلاند ينطبق على شهادة حازم جواد.
وأخيراً، هذه الثلاثية فصول جاءت في وقتها، والأهم أنها جاءت من المصدر الذي كان مطلوباً أن تستفيض منه. ولقد اجتهد الدكتور الطويل في استرجاع الأحوال والأحداث والأيام، وهي في جانب منها مجهود لاسترجاع الذاكرة المتنبّهة والمتيقّظة. ومهما تكن الأسباب، فمع الأيام ستثبت الثلاثية أنها وثيقة مهمة، لها قدرها وجديرة بالمطالعة والقراءة لمن تعنيهم حوادث ووقائع فترة من أخطر فترات تاريخ العرب المعاصر.
* كاتب ومؤرخ