شهدت الأيام الماضية تطوّرات دراماتيكية على مستوى الحَراك الطالبي في الولايات المتحدة، الذي شمل أكثر من 100 جامعة منذ أواسط نيسان الماضي؛ منها ما حَمل متغيّرات إيجابية، ولا سيما على مستوى «فك الاشتباك» داخل بعض الجامعات بين الطلبة المتضامنين مع الشعب الفلسطيني وإداراتهم، إلى حدٍّ دفع بعض رؤساء الجامعات إلى الاستقالة، كرئيسة «جامعة كورنيل»، مارثا بولاك، على خلفية الانتقادات لأسلوب تعاملها مع الاحتجاجات الطالبية؛ ومنها ما عكس «طوالع غير سارّة» لهؤلاء، مع ثبوت تفضيل عدد لا بأس به من مديري الجامعات، أسوة بعدد كبير من ساسة البلاد، وبدفع من جماعات الضغط وكبار الشخصيات الداعمة لإسرائيل، النهج الأمني. على أن هذا النهج نفسه هو ما حاولت بعض الجامعات «المكابرة» حيال تداعياته عليها، كجامعة «جنوب كاليفورنيا»، التي قرّرت الاستعاضة عن حفل التخرّج الرئيسي بتنظيم فعاليات احتفالية تخلّلها حضور خجول نسبياً، قوامه 20 ألف شخص، خلافاً لما درجت عليه العادة في مقاعد مدرج لوس أنجليس التاريخي، الذي يتّسع لقرابة 78 ألف شخص.
جانب من مشهد الحَراك الطالبي: «الصلحُ خيرٌ»!
ما بدا لافتاً خلال الأسبوع الماضي، وبعد قرابة أسبوعين من «الهبّة الطالبية»، هو اضطرار عدد من المؤسسات التعليمية الأميركية للركون إلى «الحلّ التفاوضي» مع الطلبة لفضّ اعتصاماتهم، من خلال التوصّل إلى تفاهمات معهم، والاستجابة لبعض مطالبهم، بشكل أو بآخر. ومن أبرز تلك المؤسسات الأكاديمية، «كلية الاتحاد اللاهوتية» في جامعة «كولومبيا»، إذ أعلن مجلس أمنائها، وفي قرار هو الأول من نوعه على مستوى الجامعات الأميركية، سحب الاستثمارات من جميع الشركات المستفيدة من الحرب في غزة، مؤكداً أن ذلك جاء بداعي «محافظة المجلس على معاييره الأخلاقية»، ومنع الاستثمار مع الشركات المستفيدة من «قتل المدنيين الأبرياء» في غزة.
أطلقت بعض الجامعات الأميركية وعوداً بإعادة النظر في استثماراتها في شركات إسرائيلية


بدورها، وافقت جامعات أخرى، ومن بينها «براون» و»نورث ويسترن»، ومقابل إخلاء خيام الاعتصام، على إطلاق وعود بإعادة النظر في استثماراتها في شركات إسرائيلية، لتتوالى سبحة «التفاهمات» بين الطلبة وإدارات الجامعات الأميركية، ومن بينها تعهُّد من جانب إدارة جامعة «كاليفورنيا» بإبداء المزيد من الشفافية في شأن تعاملاتها الاستثمارية مع كيان الاحتلال. وفي السياق نفسه، جاء إلغاء جامعة «كزافييه» في لويزيانا دعوة لسفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة، ليندا غرينفيلد، لحضور حفل التخرّج السنوي، وقرار الكاتب كولسون وايتهيد، الحائز «جائزة بوليتزر»، مقاطعة خطاب التخرّج الذي ستقيمه جامعة «ماساتشوستس أمهرست»، في الـ18 من الشهر الجاري، من منطلق اعتراضه على قيام إدارة الجامعة المذكورة باستدعاء الشرطة لقمع طلابها المعتصمين. ووصف وايتهيد قرار الجامعة بـ»المشين»، متمنّياً «السلامة للشعب الفلسطيني»، ومبدياً تطلّعه إلى «عودة الرهائن وإنهاء هذه الحرب الرهيبة» في غزة.

وجه آخر لـ»الحَراك»: «مشهدية القمع» باقية وتتمدّد
ما استرعى الانتباه، من جهة أخرى، هو التزايد المطّرد في عدد الجامعات الأميركية التي قرّرت انتهاج «الحلّ الأمني» للتعامل مع ذلك الحَراك، مستلهمةً «نموذج كاليفورنيا» و»كولومبيا»، عبر الاستعانة بالشرطة لتفرقة المتظاهرين المعتصمين في باحاتها، كما هو الحال في جامعتَي «جورج واشنطن» و»بنسلفانيا»، إضافة إلى «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا». وبادرت شرطة فيلادلفيا، من جهتها، إلى فضّ خيام الاعتصام المؤيّدة للفلسطينيين خارج حرم جامعة «بنسلفانيا» في وقت مبكر من صباح أمس، وذلك في موازاة تشديد الإجراءات في أماكن الاحتجاج، وإغلاق أحد الشوارع المحيطة، فضلاً عن شنّ حملة اعتقالات في صفوف الناشطين والطلبة المحتشدين قرب تمثال الرئيس الأميركي الراحل، وأحد «الآباء المؤسّسين» للولايات المتحدة، بنجامين فرانكلين، في حرم الجامعة، والذين قُدّرت أعدادهم بما لا يقلّ عن أربعين شخصاً. وقد جاء قرار فضّ الاعتصام في «بنسلفانيا»، بعد يوم واحد من تلميح حاكم الولاية «الديموقراطي»، جوش شابيرو، إلى نفاد الخيارات لدى إدارة الجامعة لإخلاء المخيّم بصورة سلمية، وإعلانه أن الوضع داخلها «أصبح غير مستقر وخارج السيطرة».
وعلى غرار ما شهدته جامعة «كامبريدج» في ولاية ماساشوستس، منذ يوم الإثنين الماضي، الذي كانت قد حدّدته موعداً نهائياً لفضّ الاعتصام، تحت طائلة الفصل من الجامعة ومنع الطلبة من حقّ العمل فيها أو الدخول إليها، فقد عمد عناصر الأمن التابعون لـ»إم آي تي» الواقعة في الولاية نفسها، وعبر الاستعانة بأجهزة الشرطة، إلى توجيه إنذار إلى الطلبة المعتصمين ودعوتهم إلى تفكيك أحد مخيمات الاحتجاج خلال مدة لا تتجاوز 15 دقيقة، على رغم عدم قيامهم بأعمال عنف أو شغب، قبل أن تباشر الفرق الأمنية، وفور انتهاء المهلة المحدّدة، باحتجازهم على متن شاحنات تابعة للشرطة وترحيلهم إلى أماكن الاعتقال. وبحسب محلّلين، فإن قرار مديرة «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، سالي كورنبلوث، بالتشدُّد مع المحتجّين المؤيدين للفلسطينيين، جاء على خلفية تعرّضها لضغوط من جهات عدة، لعلّ أبرزها رسالة وجّهها المئات من خرّيجي المعهد، يدعونها فيها إلى اتّخاذ «إجراءات أقوى لمكافحة معاداة السامية» داخل الجامعة، علماً أنها كانت واحدة من ثلاثة رؤساء لجامعات أميركية عريقة (إلى جانب كلودين غاي رئيسة جامعة هارفرد، وإليزابيث ماغيل رئيسة جامعة بنسلفانيا، اللتين استقالتا لاحقاً)، ممَّن تعرضوا لانتقادات شديدة العام الماضي على خلفية اتهامهم بالتساهل مع ما وُصف بـ»الأعمال المعادية للسامية» في حرم جامعاتهم، وهو ما يفسّر تبرير كورنبلوث، في بيان رسمي صادر عن إدارة «إم آي تي»، قرار فضّ الاعتصام بالقوّة، بالتشديد على أن «الاستخدام المطوّل للأملاك الخاصة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كمكان للاحتجاج، ومن دون إذن مسبق، وتحديداً في سبيل قضية مثيرة للجدل، وعلى قدر كبير من الإشكالية، لم يَعُد أمراً قابلاً للاستمرار، على نحو آمن».