عكس إعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، توجّه بلاده إلى تعليق بعض شحنات السلاح إلى كيان الاحتلال، حالة التململ المتنامي، وإنْ بوتيرة بطيئة، داخل البيت الأبيض من مسار الحرب على غزة. ومع ذلك، فقد أثار الإعلان ردود فعل متفاوتة، خصوصاً أنه يأتي في ظلّ الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة في اتجاه مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، كما في شماله، وهو ما أعقبه بروز مواقف مهادنة من جانب إدارة بايدن تجاه إسرائيل، وتحديداً مع إعلان وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، خلال الساعات الأخيرة، خلاصة التقرير في شأن التحقُّق من مدى توافق استخدام العدو للأسلحة الأميركية الصنع، مع القانون الدولي، والتي اكتفت بإثارة الشبهات في هذا الشأن، من دون توجيه إدانة مباشرة لتل أبيب.
«الأفعال أجدى من الأقوال»
يلفت محلّلون غربيون إلى أن ما أقدم عليه بايدن أعقب موجة واسعة من التجاوزات الإسرائيلية للنصائح الأميركية في شأن إدارة الحرب في غزة. وفي هذا الصدد، يصف موقع «ميدل إيست آي» قرار الرئيس الأميركي بـ»الضربة المدروسة بعناية» لحكومة بنيامين نتنياهو، معتبراً أن بايدن «يحاول أن يوازن ما بين دعمه لإسرائيل، من جهة، وتفاقم حالة الإحباط في أروقة الحزب الديموقراطي»، من جهة ثانية. وينقل الموقع البريطاني، عن مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين، تأكيدهم أن تعليق توريد بعض الأسلحة إلى إسرائيل، وبصورة علنية، قد تمّ «على مضض»، علماً أن عملية اتخاذ القرار استغرقت أسابيع عدّة، وقد تخلّلتها خلافات بين مستشاري بايدن، علماً أن فريق المؤيّدين يشمل إلى جانب نائبة الرئيس كامالا هاريس، كلّاً من مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، وبلينكن، إضافة إلى جون فاينر، أحد كبار المستشارين في حملة بايدن الانتخابية، والمكلّف بملفّ الاتصالات مع الأميركيين العرب، فضلاً عن وجوه بارزة من «ديموقراطيي الكونغرس»، في مقدّمهم عضو «لجنة الشؤون الخارجية» في مجلس النواب غريغوري ميكس، الذي كان قد صوّت بالفعل على مشروع قرار لتعليق صفقة أسلحة لحساب الجيش الإسرائيلي، بقيمة 18 مليار دولار، تشمل طائرات مقاتلة من طراز «F-15»، شأنه شأن زميلته إليزابيث وارن، التي وصفت قرار وقف صفقات الأسلحة بـ»الخطوة في الاتجاه الصحيح». وفي المقابل، يتصدّر كبير مستشاري بايدن لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، فريق المعارضين لتلك الخطوة. وبحسب مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين، فإن مواقف الفريق المؤيّد «تنبع من وجهة نظر تسود داخل البيت الأبيض مفادها أن نتنياهو ينسف محادثات السلام». ويرى هؤلاء أن «اقتراح وقف إطلاق النار الذي يدعمه مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، يتضمّن الإقرار بحقيقة مرّة، وغير سارة، تفيد بأن إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المتمثّل في تدمير حماس».
يتصدّر بريت ماكغورك فريق المعارضين لفرض شروط على مبيعات الأسلحة لإسرائيل


وضمن السياق نفسه، يحاول فرانك لوينشتاين، الذي شغل منصب المبعوث الخاص لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، شرح خلفيات ما جرى، مشيراً إلى أن الإسرائيليين، طيلة الفترة الماضية، «لم يبدوا اهتماماً يُذكر، ولو بالكلام، بالمخاوف الأميركية». ويتابع: «بعد شهرين من الإعراب عن القلق، توصّل البيت الأبيض إلى نتيجة مفادها أن الإسرائيليين لا يكترثون بما نقوله. إنهم يأبهون فقط بما نفعله». ويخلص لوينشتاين إلى القول: «سيبذل بايدن كل ما في وسعه لتجنّب تصعيد الصراع (مع الإسرائيليين)، ولكن هذا الخلاف سيصبح أكثر حدّة وشناعة، إذا ما شهدنا إسقاط قنابل كبيرة على وسط رفح». أما مارتن إنديك، الذي عمل سفيراً لدى إسرائيل مرتين ومبعوثاً خاصاً سابقاً للشرق الأوسط، فقد رأى أن «مزيجاً من الضرورات السياسية، سواء تلك المتّصلة باعتبارات محلّية، أو تلك الناجمة عن الحاجة إلى اقتناص الفرصة الاستراتيجية (لتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى نتنياهو)، هو ما دفع بايدن إلى حيث لم يكن يُتوقّع أن يذهب قط».

خط بايدن «الوردي»
في المقابل، وعلى رغم اعتبار العديد من المحلّلين قرار بايدن خطوة نوعية في تاريخ العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، نظراً إلى كونه أول رئيس أميركي يبادر إلى تعليق شحنة أسلحة إلى إسرائيل بصورة استباقية لعملية عسكرية تعتزم الأخيرة القيام بها، فإن الشكوك تحوم حول مدى جدّية «التحوّل» في الموقف الأميركي، ولا سيما أن القرار لا يشمل حزمة مساعدات عسكرية للكيان، بقيمة 26 مليار دولار، كانت قد أُقرّت الشهر الفائت، وهو ما دفع البعض إلى التهكم على مصطلح «الخط الأحمر» المستخدم من قِبَل بايدن حيال إسرائيل، ووصفه بـ»الخط الوردي». ويشدّد هؤلاء المحلّلون على ضرورة عدم الاستعجال في استخلاص نتائج على خلفية تصريحات بايدن إلى شبكة «سي إن إن»، ولا سيما أن الرئيس نفسه عاد وألقى خطاباً خلال الأسبوع الجاري صبّ فيه جام نقده على «حماس»، متعهّداً بمواصلة «دعم الولايات المتحدة الحازم لأمن إسرائيل».
ويرى الباحث المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط في «معهد كارنيغي لبحوث السلام الدولي»، والمفاوض السابق في وزارة الخارجية الأميركية آرون ديفيد ميلر، أن كلام بايدن شكّل «تحذيراً لا لبس فيه» للجانب الإسرائيلي، مستدركاً بأنه «قد تمّت صياغته بعناية، بحيث تكون مفاعيله محصورة ضمن قضية محدّدة». وعن نظرته إلى مستقبل حركة «حماس»، يضيف ميلر أن «الولايات المتحدة تعمل وفقاً لسيناريو مدفوع بالواقع القائم على الأرض، والمتمثّل في أن حماس ستستمرّ إمّا كفصيل مسلّح أو كقوّة سياسية فلسطينية فاعلة، على نحو يتيح لها التأثير على مجريات الأمور».
وبالوقوف عند صعوبة المعادلة التي يسعى خلفها بايدن، يلفت موقع «ميدل إيست آي» إلى التقرير الذي عرضه وزير الخارجية الأميركي أمام الكونغرس، والذي ينتقد فيه إسرائيل، من دون أن يحمل خلاصات حول استخدامها الأسلحة الأميركية خلافاً لأحكام القانون الدولي، عادّاً إياها مؤشّراً إلى سير إدارة بايدن على «حبل مشدود». مع ذلك، يكشف وزير الدفاع الأميركي الأسبق، تشاك هاغل، وهو أحد الجمهوريين المقرّبين من بايدن، أنه «قد طفح الكيل لدى الرئيس» من الإسرائيليين، مضيفاً أن بايدن «شعر أن عليه أن يقول ويفعل شيئاً ما، وأن يُظهر بعض الإشارات إلى أنه لن يستمرّ في هذا الأمر»، في إشارة إلى السكوت على تجاهل الإسرائيليين لنصائح واشنطن. ويشير هاغل إلى أن بايدن كان، خلال الفترة الماضية، «الشخصية الأكثر مقاومة للضغوط التي يمارسها اليسار السياسي (في الحزب الديموقراطي) للقيام بالمزيد من الإجراءات لكبح جماح نتنياهو». ويلفت الدبلوماسي الأميركي السابق، دينيس روس، بدوره، إلى تردّد الرئيس في مواجهة نتنياهو، خلافاً لبعض أعضاء الإدارة، كاشفاً أن بلينكن هو «الشخص الوحيد» القادر على التأثير في مواقف بايدن، بسبب الثقة التي يحوزها لديه، لكونه أحد أعضاء الفريق المساعد له منذ أكثر من 20 عاماً.