لقد أرادت إسرائيل لعدوانها على غزة أن يكون نكبة جديدة للفلسطينيين، أو كما سمّاها قادتها، «حرب استقلال ثانية»، أو «حرب وجود»، لكن الفلسطيني حمل أشلاء أبنائه ليبدّد أوهاماً كثيرة وإلى الأبد، مردّداً: «لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء يا صديقي، لا قلاع! لا الماء عندك، لا الدواء، لا السماء، ولا الدماء... ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء...»، وهو بات يدرك اليوم أن بعض الأنظمة العربية كانت سبباً في نكبته عام 1948، كما هي سبب في إبادته عام 2024. وإذ يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم، فإنهم يعيشونها على شكل حرب إبادة شاملة يوميّاً، وصلت إلى حدّ مطالبة مسؤولين إسرائيليين وأميركيين باستخدام السلاح النووي ضدّ هؤلاء، في وقت تقدَّر فيه قوّة القنابل والمتفجرات التي أُلقيت على قطاع غزة بقوّة عدّة قنابل نووية من التي أُطلقت على هيروشيما وناغازاكي. ورغم ذلك، فإنهم باتوا اليوم أكثر إيماناً أن هذا الكيان لن يُعمّر طويلاً، أو على الأقلّ أن المشروع الاستعماري الغربي بدأ بالانهيار، وهو إيمان لا ينطلق فقط من تمسُّكهم بحقّهم، بل بما يُقرأ من معطيات على الأرض.
ضربت عملية «طوفان الأقصى» القاعدة الأساس التي قامت عليها إسرائيل، أي توفير الأمان للمستوطنين
هكذا، تحلّ ذكرى النكبة الـ76 على الفلسطينيين فيما نشوة الانتصار لم تفارقهم؛ ذلك الانتصار المتمثّل في إذلال «الجيش الذي لا يُقهر» في 7 أكتوبر، وإحداث شرخ في قاعدة هذا الكيان، الذي دائماً ما روّج لقوّته وبطشه، وقدرته على توفير الأمن لـ«مواطنيه»، وسطوته على المنطقة. لم تكن إسرائيل سوى جيش أُقيمت له دولة؛ واليوم، بات هذا الجيش على المحكّ، فيما تثار حوله الكثير من الأسئلة بعدما تلقّى هزيمة 7 أكتوبر، ولم يستطع حسم المعركة المستمرة في غزة منذ 8 أشهر. كما اتّضح أن هذا الكيان لا يمكنه النجاة من دون الدعم الغربي والعربي له، حيث انبرت عشرات الدول لإنشاء جسور إمداد عسكرية وغذائية وصناعية لمصلحته؛ ورغم ذلك، يقول اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي، إسحاق بريك، إنه «لا فائدة من استمرار القتال في غزة وإسرائيل ستتكبّد أضراراً جسيمة، كما أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى انهيار جيش الاحتياط والاقتصاد».
وتُضاف إلى كلّ تلك المؤشرات، التي يرى فيها مراقبون وخبراء، بداية النهاية للمشروع الصهيوني، الخلافات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي بين المتدينين والعلمانيين، وفقدان الثقة بالجيش، والتحوّل في الرأي العام العالمي. وقد أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «معاريف»، يوم الجمعة الماضي، أن ثلث اليهود في إسرائيل لا يريدون أن يعيش أولادهم وأحفادهم في هذه البلاد، وأن ثقة الإسرائيليين في الحكومة والجيش تراجعت بشدّة، ومعها منسوب التفاؤل من 50% إلى 35%، في وقت تتزايد فيه معدلات الهجرة المعاكسة.