ارتبطت غالبية الرياضات تاريخياً بالعنف، لتتجلّى «وحشيتها» في الألعاب القتالية. وبعيداً عن «ترقيعات» اللياقة والترفيه اللذين يُنسبان إلى الملاكمة «وأخواتها» بهدف إكسابها قبولاً مجتمعياً، فإن السلبيات تفوق الإيجابيات بأشواط.مثّلت المعارك القتالية منذ نشأتها انعكاساً لقساوة المجتمع. وجد الارستقراطيون ضمن الكولوسيوم الروماني وباقي «الحضارات» متعةً «سادية» لا تُضاهى في مشاهدة المصارعين، نبلاء و«عبيداً»، يتقاتلون حتى الموت، وجاهر البشر في تخليد تلك المشاهد الدموية ضمن المنحوتات والرسومات وقصائد الملاحم.

تقليدٌ استمرّ مع تواتر الأزمنة وبوسائل مختلفة، فتسابق صنّاع السينما والمحتوى على إعادة إحياء العنف القتالي، توازياً مع إضفاء الشرعية على تلك الألعاب من بوابة الرياضة.

«تطوّرت» الحضارات. أُسقطت إمبراطوريات وشُيّدت أخرى. «انتهت» العبودية. ومع ذلك، عند رؤية شخصين بين مربط حبالٍ أو داخل قفصٍ، يتقاتلون حتى الاستسلام أو الضربة القاضية أو الاستبعاد، يتبادر إلى الأذهان أسئلة جوهرية عن مدى التحضر الفعلي الذي حصل على امتداد القرون.

بالطبع، بقية الألعاب الرياضية ليست بريئة، أو بمعنى أدق، لم تعد كذلك. قد تكون بريئة بالنسبة إلى المشجعين أو بعض الرياضيين، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى رؤسائها ولا إلى الأيدي الخفية التي تحرك خيوط الرؤساء. وبعيداً عن تداعيات تأثير مختلف الألعاب الرياضية كقوى ناعمة وأداة لحشد الشعوب، فإن مساوئ الألعاب القتالية تحديداً تفوق نظيراتها، لأنها ببساطة تضر بمختلف الجهات، حتى «البريئة» منها.
هناك مئات الدراسات والمقالات التي تضيء على مخاطر الألعاب القتالية


في الملاكمة وأخواتها، يتعرّض المقاتلون لمخاطر هالكة كالإصابة بالكسور والتمزقات والالتواء في العضلات والأربطة، فضلاً عن إصابات دماغية خطيرة، وأحياناً قاتلة، كما أنها تعزز الغطرسة وعقدة التفوق... وبعيداً عن المنافسين داخل الحلبة، يطاول الضرر المشاهدين أنفسهم من خلال إزالة حساسية إلحاق الأذى المتعمّد عندهم عبر تطبيع السلوك العدواني في الأذهان، دون إغفال التداعيات الوخيمة لتقليد الأطفال... أما المستفيدون، فهم رؤساء الألعاب القتالية والأيدي الخفية التي تحرك خيوط الرؤساء.
عليه، وللحؤول دون استمرار هذه الأضرار وغيرها، قامت جهات عدة بحملات لإلغاء الألعاب القتالية، منها جمعية الملاكمة البريطانية التي تطالب منذ عام 1982 بالإلغاء الكامل للملاكمة لأسبابٍ طبية، مع مناشدتها حظر هذه «الرياضة» على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاماً كخطوة أولى. من جهتها، نشرت الجمعية الطبية العالمية عام 1983 بياناً لدعم الحظر التام، وكرّت السبحة حتى يومنا هذا لتشمل مئات الدراسات والمقالات التي تضيء على مخاطر الألعاب القتالية.

ومع ارتفاع الصيحة من مختلف الجهات، طافت على السطح محاولات رسمية لكبح الجماح. عليه، قام المسؤولون عن الألعاب القتالية بتحسيناتٍ طفيفة كحل وسط، منها إجبار المقاتلين على ارتداء قفازات وخوَذ رأسية في بعض النزالات وخاصةً غير الاحترافية، قبل شروعهم في خوض قتالات مرخّصة تخضع لمجموعة من القواعد واللوائح. مع ذلك، لم تُقلِّص تلك الإجراءات كمية التهديدات التي تطاول حياة المقاتلين.

(ويب)

آخر المتضررين هو الملاكم البريطاني شريف لوال، الذي توفّي قبل أيام عن عمرٍ ناهز 29 عاماً، بعد أن انهار خلال خوضه نزاله الاحترافي الأول في المملكة المتحدة. وكان شريف يخوض نزاله الاحترافي الأول ضد الملاكم البرتغالي مالام فاريلا، في مركز هارو الرياضي في إحدى ضواحي شمال غرب لندن عندما وقع الحادث، ليلقى حتفه في ربيع الشباب، سيراً على خطى مقاتلين آخرين توفّوا في الحلبة مثل الأميركي أندي بوين عام 1894 عن عمر 27 (أحد أوائل المقاتلين الموثّقة وفاتهم في الحلبة ضمن التاريخ الحديث)، والمكسيكي رافاييل رودريغيز عام 1960، والكوري الجنوبي كيم دوك كو عام 1982 عن 27 عاماً، والأميركية بيكي زيرلينتس عام 2005 عن عمر 34 عاماً، والروسي ماكسيم داداشيف عام 2019 عن عمر 26 عاماً، وغيرهم الكثير...

وفي وجه الحملات الداعية لحظر هذه الألعاب الخطيرة، قامت شريحة كبيرة من الجماهير بالاعتراض. منهم من قارن بمعدّلات الوفيات المنخفضة للألعاب القتالية مقارنةً برياضات أخرى، ومنهم من دعم استمرار التشريع مستشهداً بخلق بيئة خاضعة للرقابة، كما توجّه البعض للإشارة إلى أن الحظر المحتمل غير عادل للجماهير ولا للاعبين أنفسهم، الذين يستخدمون هذه «الرياضات» لتحسين مستوى معيشتهم.

وفي وجه هذه الحجج، قام الداعون للحظر مرة أخرى بالاعتراض طارحين اقتراحات أكثر سلامة، مثل مشاهدة رياضات هادفة ذات قيم أعلى، وتوفير مرافق ترفيهية أفضل للشباب، كما فرص تربوية ومهنية، بدلاً من إرسالهم إلى التهلكة.

«الرياضة» المعاصرة التي تدعو للاستمتاع برؤية مقاتل يهدف إلى إلحاق ضرر حاد في دماغ الخصم، ليست برياضة. يؤذى المقاتلون، ويؤذى الجمهور، أما المستفيدون فهم رؤساء الألعاب القتالية والأيدي الخفية التي تحرك خيوط الرؤساء.