في السياسة، كما في المال، ثمّة رابحون وخاسرون من خفض الإنتاج. وقد يبدو لوهلة أن الولايات المتحدة هي الخاسر الأكبر. لكنّ الموقف الأميركي، وإنْ سَجّل اعتراضاً على الخفض الجديد، إلّا أنه لم يكن بنفس حدّة الاعتراض على الخفض السابق، الذي حصل قبل شهر من الانتخابات النصفية الأميركية التي جرت في تشرين الثاني الماضي، وبدا مصمَّماً من قِبَل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لدعم الجمهوريين ضدّ الديموقراطيين في تلك الانتخابات، وهو ما حَقّق نجاحاً جزئياً بفوز الجمهوريين في مجلس النواب. أمّا ردّ الفعل على الخطوة الأخيرة فجاء مخفَّفاً جداً، إذ اعتبر البيت الأبيض أنه «غير مرغوب فيها». ومن هنا، فإن تبيان الموقف الأميركي بكلّ أبعاده بحاجة إلى تمحيص أكبر؛ فأميركا أكبر منتج للنفط في العالم بنحو 12 مليون برميل يومياً، ومُصدّر صاف، وبالتالي هي ليست بحاجة إلى استيراده من الخارج، إلّا أن ارتفاع أسعار النفط عالمياً يغذّي التضخّم الداخلي الذي تسعى إلى محاربته من خلال رفع مستويات الفوائد، وهي سياسة كادت تتسبّب بأزمة مالية عالمية جديدة بعد انهيار بنك «سيليكون فالي»، وتراجع سيولة بنك «يو بي أس» السويسري.
المتضرّر الأول من ارتفاع الأسعار يبقى المليارات من فقراء العالم
لكن لأميركا من أسواق النفط أهدافاً سياسية مباشرة تتأتّى بالإجمال من أن التدفّق الحرّ والسعر المعتدل، يبقيان الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي بصفتها ضابط إيقاع. في المقابل، يؤدّي ارتفاع الأسعار إلى حصول روسيا على مزيد من «الكاش»، ويريحها في حرب أوكرانيا ويخفّف من مفعول العقوبات الأميركية والأوروبية عليها. الأهمّ أن ارتفاع الأسعار يهدّد التحالف التاريخي الأميركي – الأوروبي القائم منذ الحرب العالمية الأولى، ذلك أن الأكثر تضرّراً هي أوروبا التي يمسّها النفط مباشرة، ما قد يجبرها في يوم من الأيام على المساومة. هنا، يفيد التذكير بموقف المجر التي ترفض العقوبات على روسيا، وأيضاً بالضغط الأميركي الكبير الذي أرغم ألمانيا في بداية الحرب الأوكرانية على وقف مشروع أنبوب «نورد ستريم 2». يضاف إلى ما تَقدّم، أن النفط هو موضوع جدال داخل الولايات المتحدة نفسها حيث يوجد لوبي نفطي قوي يناسبه ارتفاع الأسعار. وهذا اللوبي المفتوح على تأثير كبير داخل الحزب الجمهوري كان حليفاً للسعودية في الخفض السابق للإنتاج ضد إدارة بايدن، على الأقلّ موضوعياً. وحتى إذا كانت أميركا لا تؤيّد الخفض، فإن تراجع الأسعار إلى ما دون 60 دولاراً يهدّد جدوى الاستمرار في إنتاج النفط الصخري الذي يمثّل جزءاً معتبَراً من الإنتاج الأميركي، وبالتالي صناعة النفط الأميركية برمّتها. كما أن أسعاراً بحدود 80 - 90 دولاراً لا تُعتبر مرتفعة كثيراً. القلق الأميركي يبدأ بالتفاقم عندما يتجاوز سعر البرميل المئة دولار. لكنّ الهلع يحصل إذا ما قرّرت السعودية بيع النفط إلى الصين باليوان بدل الدولار.
والحديث عن الآثار السياسية لارتفاع أسعار النفط، لا يستقيم إلّا باحتساب تأثيره على كبار المستهلكين، مِن مِثل الصين والهند اللتين تجدان نفسيهما في صفّ كبار المتضرّرين من قرار «أوبك بلس» الأخير. فالأولى تستورد قسماً كبيراً من حاجاتها النفطية من دول الخليج العربية، وقد لا يتيح لها التوازن، الحصول على جزء آخر من نفطها بأسعار متهاودة مقارنةً بالسعر العالمي، من روسيا وإيران، المجبرتَين على تقديم حسومات كبيرة بسبب العقوبات الغربية، علماً أنه في الصيف الماضي، مثلاً، جرى تنسيق أميركي - صيني - هندي لإطلاق أجزاء من المخزون الاستراتيجي لكلّ من الدول الثلاث، بهدف كبح الأسعار. لكنّ المتضرّر الأول من الارتفاع يبقى المليارات من فقراء العالم أينما كانوا، لأنه ينعكس في النهاية على المستهلك الفرد، باعتبار أن المصانع والمتاجر سوف تضيف الزيادة إلى السلعة، وإنْ كانت زيادة الأسعار يمكن أن تؤثّر على أرباحها. أمّا المستفيد الأول فهم منتجو النفط، ولا سيما في الخليج، حيث تتكدّس المزيد من الثروات لدى أنظمة الحكم لاستخدامها، في الغالب، بما ينعكس سلباً بشكل إضافي على شعوبها وشعوب الدول المحيطة، إذ يتيح لها ذلك شراء الولاءات في الداخل على حساب الحريات السياسية، وتلميع صورتها من خلال إقامة مشاريع سوريالية تهدف إلى الترويج لها، فضلاً عن تمويل الحروب أو الأنظمة الاستبدادية في الخارج.