عادت النيجر إلى دائرة الاهتمام الدولي، مع بدء قوات روسية، مطلع الشهر الجاري، عملها في مقارّ وجود القوات الأميركية، وذلك في موازاة قرار بنين (الجارة الجنوبية للنيجر) إعاقة تمرير أولى شحنات النفط التي تنقلها شركة صينية من النيجر (الدولة الحبيسة) إلى سواحل بنين، علماً أن الرئيس البنيني، باتريس تالون، أعلن، في الـ8 من الجاري، أنه لا يمكن للسفن الصينية (الراسية قبالة ميناء سيمي كراكي) البقاء من دون مُدد محدّدة، متحدّثاً عن «نزاع حدودي» بين البلدَين يحول دون استمرار نقل نيامي تجارتها (ولا سيما البترول الذي بدأ إنتاجه تجاريّاً في نيسان الماضي). ومثّلت تلك التطورات مؤشراً إلى العودة الغربية المرتقبة، للانتقام من سياسات النيجر المناهضة للوجود الأميركي والغربي على أراضيها، ما يفرض مواجهة هي أقرب إلى تكسير عظام الدولة واقتصادها، والقضاء على توقّعات نيامي بتحقيق نمو اقتصادي في العام الجاري نسبته 11%، بفعل تصدير نفطها بخبرة واستثمارات صينية.
بكين ونيامي: قُبلة حياة للاقتصاد النيجري؟
مثّل قرار بورتو-نوفو منْع تحميل شحنات البترول القادمة من النيجر على السفن الصينية قبالة سواحل بنين، ضربةً قاصمة لمحاولة بكين إنقاذ الاقتصاد النيجري، عبر تقديم «مؤسسة البترول الوطنية الصينية» (CNPC) قرضاً بقيمة 400 مليون دولار، وبفائدة مخفّضة عند 7%، على أن تسدّده نيامي في شكل صادرات بترولية إلى الصين على مدى 12 شهراً. وتوقّع «صندوق النقد الدولي»، من جانبه، أن تسهم شحنات الوقود تلك في تسريع نموّ الاقتصاد النيجري إلى مستويات قياسية من شأنها أن تجعله الاقتصاد الأسرع نموّاً في أفريقيا جنوب الصحراء، في عام 2024. وكانت المؤسسة الصينية قد أكملت بالفعل مدّ خطّ أنابيب للبترول من النيجر على سواحل بنين بطول 1200 ميل، وذلك في إطار خطّة أوسع تبلغ قيمة استثماراتها 4.6 مليارات دولار، لتحديث صناعة البترول في هذا البلد، وبدء صادرات تبلغ 90 ألف برميل يوميّاً في أيار الجاري، ترتفع في الأشهر المقبلة إلى 110 آلاف برميل مع التشغيل الكامل لخطّ الأنابيب. ورغم إعلان تالون أن سبب منع تمرير الشحنات، هو رفض النيجر فتح حدودها لاستقبال السلع القادمة من بنين (كردّ انتقامي، بحسب ما يُفهم ضمنيّاً)، إلا أن مجيء القرار بعد أقلّ من أسبوع على عقد شركة «خط أنابيب بترول غرب أفريقيا» (WAOPC) اجتماعها المتمّم للمسات الأخيرة لتصدير الشحنات في كوتونو (بنين) والاتفاق على رسوم النقل والعمليات البحرية واللوجيستيات، يشير إلى وجود دوافع سياسية وراء القرار، تتجاوز في طبيعتها افتراضات الضغط على النيجر لتيسير التجارة الثنائية مع بنين.
انتقادات متصاعدة باتت توجَّه إلى عجز واشنطن عن تبنّي مقاربة واقعية إزاء القادة العسكريين في نيامي


وتلت الأزمة الحالية أخرى مماثلة، قبل أيام، مع اضطرار شركة «Sahara SARL»، وهي شركة صينية بدأت إنتاج الذهب في مدينة تابلوت في كانون الثاني 2024، وحلّت محل نظيرتها الفرنسية «أورانو»، لغلق مواقع عملها على خلفية مشكلات بيئية نتج منها مصرع عشرات الحيوانات ومخاوف من وقوع خسائر بشرية. وتُعدّ الخطوة مثيرة لمخاوف حول مجمل عمليات الشركة الصينية مستقبلاً في النيجر، ولا سيما أن «أورانو» نفسها كانت متّهمة، طوال العقود الأربعة الماضية، بتلويث البيئة في تلك المناطق.

مخاوف واشنطن من التعاون الروسي - النيجري
عبّر مسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، منذ مطلع الشهر الجاري، عن مخاوف عميقة من تمدّد الوجود العسكري الروسي في النيجر واحتمالات تعمُّد «العسكريين الروس» (الذين لا يتجاوز عددهم الـ100 جندي، وفق التقديرات الأميركية) التضييق على الجنود الأميركيين في نقاط التفتيش، ولا سيما أنهم يقيمون جميعاً في «القاعدة 101» الملحقة بـ«مطار نيامي الدولي»، وكذا عن مخاوفهم من تجدُّد «التجربة السورية»، حيث بلغ التوتر بين القوات الروسية والأميركية مرحلة أنذرت بصراع مباشر بين البلدين. وفي الوقت نفسه، لا تزال واشنطن متمسّكة بمسار التفاوض مع القادة العسكريين في نيامي للتوافق على خريطة طريق متعدّدة الجوانب قوامها التوصل إلى صيغة لبقاء القوات الأميركية في البلاد وربْط وجودها بجدول زمني للعودة إلى الحكم الديموقراطي، وهو الأمر الذي يرفضه هؤلاء القادة، ولا سيما مع ربط واشنطن هذا المسار بطرد القوات الروسية.
ومع جنوح الميديا الغربية إلى المبالغة إزاء احتمالات المواجهة الروسية - الأميركية في النيجر، «كشرارة لاندلاع حرب عالمية ثالثة»، فإن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، قلّل من هذه المخاوف في تصريحات أعقبت وصول القوات الروسية إلى «القاعدة 101»، مؤكداً أن تلك القوات «لا تفرض أيّ تهديد لقوات البنتاغون في مطار نيامي». ولكن، لا يمكن فصل هذا التطوّر، رغم محدوديّته إلى الآن، عن مجمل الإستراتيجية العسكرية الروسية في إقليم الساحل (وربّما وصولاً إلى تشاد والسودان) وما يمثّله نشر آلاف الجنود الروس، وفق اتفاقات تعاون أمني في عدد من الدول الأفريقية، من تهديد بعيد المدى لواشنطن وحلفائها في القارة. أيضاً، تخوّفت تقارير غربية من احتمال انتشار القوات الروسية بأعداد أكبر مستقبلاً، في شمال النيجر، واستخدام «درونز» متطوّرة إيرانية الصنع تعوّض تعطيل أنشطة القوات الأميركية، ما سيمثّل «تهديداً للحدود الجنوبية للناتو مستقبلاً».
وفيما تواصل موسكو تمدُّدها المنتظم، ولكن البطيء، في النيجر، فإن انتقادات متصاعدة باتت توجَّه إلى عجز واشنطن عن تبنّي مقاربة واقعية إزاء القادة العسكريين في نيامي، وتخبّطها بين تصريحات لـ«البنتاغون» (25 نيسان) عن أن الأفضلية تمنح للقدرة على العمل خارج أماكن من مثل النيجر، وإعلان الخارجية الأميركية أن الانسحاب المزمع سيكون مرتّباً ومسؤولاً، ثم العودة إلى التأكيد على وجود مفاوضات «تضمن استمرار وجود القوات الأميركية في النيجر»؛ ما يكشف عن عدم حسم الإدارة الأميركية، في أشهرها الأخيرة، خياراتها السياسية في التعامل مع نيامي مباشرة، وتفضيل سياسة الضغط عليها عبر «وكلاء» في غرب أفريقيا، وهو السيناريو الأقرب والأنجع الذي دائماً ما طبّقته واشنطن في حالات مماثلة.

خلاصة
برّرت بنين، التي تشهد بدورها اضطرابات واحتجاجات أهلية واسعة بسبب تدهور الأحوال المعيشية لغالبية سكانها، خطوتها العدائية تجاه النيجر بمطالبتها الأخيرة بفتح حدودها لاستقبال حركة التجارة الموجّهة إليها، في توقيت دالّ على عمق التأثير الأميركي والغربي في الدولة التي شهدت، نهاية الثمانينيات، انطلاق موجة التحوّل الديموقراطي في أفريقيا، والتحوّل من النظام «الماركسي» بقيادة ماثيو كيريكو، ثم بدء سلسلة المؤتمرات الوطنية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ونفوذه في أفريقيا. ويبدو أن الولايات المتحدة وفرنسا تقودان راهناً ديبلوماسية تكسير عظام النظام الحاكم في نيامي من بوابة بنين هذه المرّة، وهو سيناريو يُتوقّع تكراره في دول أخرى بمجرّد اتخاذ أيّ منها وجهة جديدة تجاه واشنطن وباريس.