طهران | إنه منتصف الليل بتوقيت طهران. تسير وحيداً في الطرق المؤدية إلى «ساحة الفردوسي»، علّك تجد محالّ لا تزال أبوابها مشرعة في هذه المدينة التي تبدو، خلال اليوم الأول فيها، أنها تغلق باكراً. تصل إلى الساحة، حيث ينتظرك تمثال كبير لأبي القاسم الفردوسي الذي دوّن في القرن العاشر الميلادي، «الشاهنامة» (كتاب الملوك، أو «ملحمة الفرس الكبرى»)؛ لا يفاجئك حجم التمثال ولا مكانه المتميز، لتقديرك المسبق بمدى سطوة النزعة القومية في إيران، وعليها.
في طريق العودة، بعدما لم تجد ما تريد بين ما هو متوفر في الساحة، تقع عيناك في طريق متفرعة على مقهى جميل وغير تقليدي. تدخله لتكتشف بعد وقت قصير أنك دخلت إلى حفل خاص يُنظّم هنا. كانت الموسيقى تطغى على المكان، وكان صوت عذب يغني بلغة لا تفهمها، آسراً.
لن تكون مأخوذاً بطهران بمجرد الوصول إليها، كما قد يحصل لك حين تزور مدناً إقليمية أخرى ــ اسطنبول (الساحرة) مثلاً. في طهران، عليك أن تبحث بصبر عن التفاصيل، أو عما تبحث عنه. وفي طهران، بعكس اسطنبول المنفتحة على العالم (والتي يجمعك بها كشرقيِ الكثير من الروابط التاريخية، شئت ذلك أو أبيت)، عليك أن تتأقلم مع يوميات تنعكس فيها بشكل أو بآخر أثمان المواجهة مع «أمريكا»، ومع الغرب بصورة أو بأخرى. لكن بأي حال، فالأكيد أنك سوف تخرج غداة جولة في شوارع المدينة، محملاً بمزيد من البغض على من يريد أن يحاصرك بنظرته ذات البعد الواحد (الارتباط الديني)، إلى هذه البلاد... وسوف يزيد هذا البغض توالياً (عساه يبقى بغضاً!).

إلى السياسة

لا تشذ طهران عن قاعدة شرق أوسطية، تقول: ليس في السياسة إلا الأمن، والاستراتيجيا. هذا هو التعريف للسياسة في هذه المنطقة من العالم، ولذلك أسباب. لكن بما أنّك في قلب عاصمة هي من أهم صانعي «السياسة» في هذا الشرق (الملتهب)، فإنك لن تقاوم فرصة لقاء مسؤول دبلوماسي رفيع، في زيارة هي أصلاً على برنامج وفد أنت عضو فيه. تخشى وأنت في الطريق للقائه بالنظر إلى أنّ هناك من عوّدنا على صورة واحدة عن المسؤولين الإيرانيين. لكن الريبة تزول في دقائق اللقاء الأولى.
يبدأ هذا المسؤول حديثه عن «الأزمة القطرية»، شارحاً وجهة نظر بلاده «التي لا تريد الصيد في الماء العكر... إذ نحن لا نريد الاستفادة مرحلياً من هذه الأزمة». يقول إنّ طهران لديها مبدأ واضح، يرتكز على «استقلال الدول في هذه المنطقة، ورفض مشاريع السيطرة والهيمنة». يكمل: «بالتالي، نحن نرفض الحصار الاقتصادي الذي يفرض على الشعوب الأخرى، ونؤيد مبدأ الحوار وحلّ الخلافات بشكل سلمي».
يستند الدبلوماسي إلى هذه المقدمة، ليقول: «من هنا، أدخل إلى الأزمات الإقليمية المستعصية». لكن مهلاً، فالريبة زالت، وبالتالي ليكن حواراً ونقاشاً، لا مقابلة أشبه بالمقابلات الرسمية. وهكذا تُقلب الآية، ليأخذ الحاضرون المبادرة، فيُسأل المضيف: «عملياً، تقول السعودية إنها سعّرت الأزمة مع قطر بسبب علاقتها بإيران، فلمَ لا نتحدث مباشرة إذاً عن الحوار بينكم وبين الرياض؟».
لا يُعارض الدبلوماسي استعادة «الوساطة التي بدأتها الكويت (في بداية العام الجاري) بين الرياض وطهران»، لكنه يشير إلى «أننا لم نتلقّ أي إجابة من الجانب السعودي بعد، فالرئيس حسن روحاني حمل في حينه إلى الكويت جواباً مكتوباً، ونحن لا نزال ننتظر الرد... إلا أنّ للسعودية سياسات أخرى». يعني ذلك أن لا حوار بين الطرفين، ولعلّ ما لم يقله المسؤول الإيراني أنّ بعض العواصم الإقليمية الوازنة، لم تُعر اهتماماً كبيراً للوساطة الكويتية (وهذا ربما ما فعلته طهران أيضاً)، لعلم الجميع بأنّ السعودية إذا أرادت حواراً حقيقياً مع إيران، فإنها سوف تتواصل مباشرة معها، وليس عبر أي وسيط. بأي حال، هكذا «سقطت كل الوساطات مع السعودية، وللعلم، هناك أطراف غير الكويت سعت أيضاً، وبينها أطراف غير عربية وغير إسلامية».
يرتفع مستوى التوتر في حديث المسؤول الإيراني حين تقوده السياقات إلى السعودية «حيث يتمّ تدبير السياسة بعقل بدوي». برغم ذلك، فإنّ «طهران تدرك أننا في نهاية الأمر دول جارة، ولا نستطيع تغيير الجغرافيا... انظروا إلى علاقاتنا مع تركيا مثلاً، نتعامل في ما بيننا برغم الخلافات الموجودة... نحصر خلافاتنا، الكثيرة». هذه الجاهزية الإيرانية لأي حوار محتمل، لا تلغي الانتقادات الشديدة تجاه السعودية، فطهران تسأل «انظروا من يستفيد أكثر من الإرهاب وآلته؟»، وتشدد على «رفض السياسة السعودية الإيجابية تجاه الكيان الصهيوني». وفي وقت أنّ الحديث عن السعودية، إلا أنّ الرجل العارف بنظرة إيران إلى جارتها، يرفض الإجابة عند سؤاله عن تهديد محمد بن سلمان قبل مدة بـ«نقل الحرب إلى داخل إيران». لكن تكرار هذا السؤال، يدفعه إلى الاستعانة، بعد تفكير، بالمثل الذي يقول: «مين جرّب المجرّب، كان عقلو مخرّب، وحلّت به الندامة».
بأي حال، لنعد إلى «الإيجابية» في الحديث عن دول الجوار: «إذا كان الأمر كذلك، فلمَ لا تُصلح العلاقات بينكم وبين دولة الإمارات التي من المعروف أنّ علاقاتها، وخاصة الاقتصادية، مع إيران، لم تنقطع؟»، يسأل أحدهم، ليجيب المسؤول الإيراني مبتسماً: «اسألوا الإماراتيين، فهم أكثر الأطراف استفادة من العلاقة مع إيران... وليقولوا ما يقولون».

هاجس الحصار

لا غرابة أن تستشعر في أحاديث السياسيين الإيرانيين شعورهم الدائم بأنهم «محاصرون، وأنهم محاطون بخصوم»، فهذا الأمر له ما يفسره في ظل المرحلة الراهنة، وله ما يفسره تاريخياً أيضاً نظراً إلى واقع إيران الجغرافي الذي برغم امتداده، إلا أنه محاصر. يظهر جلياً هذا الشعور في «أحاديث طهران»، وربما يرتفع راهناً. لكنّ للعملة وجهاً آخر... ولنعد إلى «أزمة قطر» كما سماها محدثنا، ونسأل عما يُعتبر «استثماراً إيرانياً فيها»، بحثاً عن ذلك «الوجه الآخر».
«في بداية الأزمة، ظهر سريعاً أنّ هناك توجهاً للتقارب بين إيران وتركيا وقطر، يرتكز على قاعدة الدعم المشترك لجماعة الإخوان المسلمين، أو بالأحرى القبول المشترك لهذه الجماعة، في الحد الأدنى. وقد كان لافتاً منذ أسابيع قليلة نشر وكالة مهر الإيرانية، كاريكاتير يجمع السيّد علي خامنئي إلى جانب القرضاوي والغنوشي وأردوغان، وغيرهم، وهم واقفون أمام المسجد الأقصى. أليس هذا دليلاً رمزياً على أنّ ما يجمعكم بالدوحة وأنقرة، هو ما يسمى الصحوة الإسلامية، وبالتالي الإخوان؟». ربما ارتفع التوتر، لكنّ جواب الدبلوماسي الإيراني واضح إلى حد بعيد: «لا ننظر إلى الإخوان بصورة العداء... فهم طيف سياسي متنوع ومنتشر من المغرب إلى أندونيسيا، وحتى في أوروبا... إضافة إلى ذلك، فنحن نحترم كل الحركات التي تحوز جذوراً وحضوراً اجتماعيين».
نسأل أكثر، فتأتي الإجابة أكثر وضوحاً: «لدينا خلافات واختلافات مع الإخوان، لكن نحن ننظر إلى الأجزاء الطبيعية (والحاضرة اجتماعياً) في الأمة الإسلامية، على أنها جزء طبيعي من هذه الأمة... وفي الوقت نفسه (نذكّر بأنّ) هناك جوانب مشتركة في التعامل مع الإخوان: القضية الفلسطينية». هذه إشارة إلى «حماس»؟

يرتفع مستوى التوتر في حديث المسؤول الإيراني حين تقوده السياقات إلى السعودية



لن ينتهي ملف العلاقة بين طهران و«الإخوان»... وعليه يُستكمل الحديث والنقاش: «حماس حليفتكم القديمة ــ الجديدة، وهي حركة إخوانية، واليوم وبعد طول فتور في العلاقة بينكما، تعود إلى التقارب مع طهران، لكن ذلك يجري بعد إعلان الحركة وثيقة جديدة إشكالية، فهل تقبلون بهذه الوثيقة التي ترضى من خلالها حماس بجزء من فلسطين على حساب الأرض الكاملة؟». تأتي الإجابة بصيغة الدعم المعروف من قبل إيران لكل حركات المقاومة وذلك «برغم أنّ مستوى التنسيق مع حماس انخفض في مرحلة معينة». وهنا يصل الحديث حتى إلى حركة «فتح» أيضاً، والتي «لم تُقطع العلاقة معها، لكنها سوف تبقى محكومة بطبيعة سياسات فتح نفسها، وإنّ أي طرف يمثّل جزءاً من المجتمع، فنحن لا نرفض التواصل معه».
طالما أنّ الحديث عن العلاقة بين طهران و«الإخوان»، فلتكن فرصة لسؤال صريح عن سوريا، وخاصة أنّ محدثنا يقول إنه «في 2011، نحن لم ننظر إلى ما بدأ في العالم العربي على أنه مؤامرة أميركية، لكن جرى استثمار تلك التطورات في ما بعد، ونحن نساعد على المواجهة الآن». نسأل: تعرفون أنّ دمشق يستحيل أن تقبل بأي اتفاق يأتي بالإخوان إلى الحكم، فما رأيكم؟ يردّ مضيفنا بصورة لافتة: «نحن نقف إلى جانب سوريا، لكن ذلك لا يعني أننا متفقون بشأن كل الأمور... خذوا مثل العراق في ما بعد 2003. في حينه، كانت دمشق ترفض التغيير في العراق، ووقفت إلى جانب السعودية وتركيا... كانوا يعتبرون أنّ التغيير أميركيٌ، لكن ممكن أن تنظر إلى الأزمات من جوانب مختلفة». هنا لا بد من أن يطول الحديث (والتفنيد)... لكنه يصل أخيراً إلى الاتفاق الأميركي ــ الروسي الحالي في جنوب سوريا، والذي يقول بشأنه: «نؤيد خفض التوتر وخاصة في المناطق المسكونة بشكل كثيف، لكن هذا الاتفاق أمام اختبار كبير: هل سوف تطبقه واشنطن بشكل صحيح؟ أو أنها سوف تخرج عنه كما كان يحصل سابقاً؟».
سؤال أخير عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعن مشروعه لحلف في الشرق الأوسط «يقوم على مواجهة إيران»، وهي الدولة التي «تتهم في الوقت نفسه بأنّها توسّع نفوذها على حساب الدول الإقليمية»، يُسأل الدبلوماسي الإيراني. الجواب مختصر، لكنه واضح. «فزمن الإمبراطوريات ولّى، ونحن نعيش في زمن الدول القومية. ما نرفضه هو السيطرة والهيمنة، لكنّ مسألة النفوذ والبحث عنه أمرٌ طبيعي، ويجب أن يترافق مع التركيز على البحث عن المساحات والمبادئ المشتركة، وكل من يبني سياسة استناداً إلى ذلك، سوف يكون لديه نفوذ». طال الحديث، ولم يعد هناك متسع من الوقت لتسأل محاورك عن رأيه بتصريح عمره نحو عامين نُقل عن أحد مستشاري حسن روحاني، واعتبر فيه أنّ «إيران إمبراطورية، عاصمتها بغداد». ربما في إجابته السابقة، ما يوضح رأيه.
هكذا ينتهي اللقاء بالمسؤول الإيراني الرفيع، لكن في ختامه تشدُّك نبرته الحاسمة تجاه «المشاريع الأميركية» (الاستعمارية). فعند هكذا أحاديث، ورغم أي انتقادات لأدوار إيران ولمقارباتها، أو حتى أي انتقاد لمفهوم «الإسلامية» نفسه في تعريف الجمهورية الإيرانية، فإنّ مواجهة «المشاريع الأميركية»، هي قدر في هذا الشرق، ولا بد من أن تطول المسيرة وتتكرر اللقاءات (وعسى أن يبقى «العدو» واحداً).
تصل إلى هذه الخلاصة، وتنتبه إلى أنّ الظلام حلّ في الخارج، فتقرر العودة إلى شوارع طهران، التي يبدو أنّها لا تبخل بالمفاجآت، بعد صبر.




«أبو عمار» كان حاضراً

في الحديث عن السعودية وعدوانها على اليمن، يقول الدبلوماسي الإيراني: «كان أبو عمار (ياسر عرفات) يقول إنّ الإسرائيليين يحاربون الحجر والبشر والشجر في فلسطين. وانظروا اليوم، فللأسف إنّ السعودية تحارب الحجر والبشر والشجر في اليمن». يستعين المسؤول الإيراني هنا بـ«أبو عمار»، لكن ليس هناك مجال للحديث ولو قليلاً عن هذا الرجل، وربما لانتقاده، منعاً للدخول في متاهات واستطرادات هي على الهامش. لكن لا ضير من اغتنام فرصة الإشارة إليه، لاستعادة الحديث عن «حماس» مجدداً، من باب ياسر عرفات: «أليست طهران منتبهة إلى أنّ حركة حماس اليوم، يبدو أنها تسير باتفاقات مع محمد دحلان، أي الرجل الذي يُقال إنّ عرفات نفسه والذي استذكرتم الآن، كان يعي ويُدرك أنه قريب (جداً) من إسرائيل؟». يبتسم الدبلوماسي الإيراني، ويجيب مازحاً: «كان يُدرك ذلك، لكنه تعامل معه».