في روايتها «في فمي لؤلؤة» (الدار المصرية اللبنانية ـ القاهرة)، لا تنسى ميسون صقر ما انجزته تقنياً في باكورتها «ريحانة»، التي انتمت الى ما يسمّى «الرواية الشارحة» التي تحكي عن العالم الخارجي وتشكل النص وعلاقات أبطاله بهذا العالم الذي يتوالد منه كل شيء في عالمها السردي.في عملها الجديد، تسعى التشكيلية والشاعرة والروائية المقيمة في مصر لاستثمار هذا المنجز وتطويره في أفق جديد لا تفقد فيه إنصاتها الشغوف للأصوات التي تم تهميشها. تنظر صقر الى تاريخ الخليج نظرة أخرى تناهض ما تم الاستقرار عليه، أقرب لما يسمى بـ «التاريخ من أسفل». تعبير استنبط في الأعوام الثلاثين الأخيرة في الدراسات التاريخية المعاصرة. إذ أدرك عدد كبير من المؤرخين أنّ هناك امكانية لاستكشاف وجهات نظر جديدة عن الماضي توفرها مصادر غير تقليدية مثل مراسلات الجنود أو الصور الفوتوغرافية. كما شدتهم فكرة استكشاف التاريخ من وجهة نظر الأفراد لا المؤسسات.
أدركت ميسون صقر مغانم الاشتغال على السرديات الصغيرة التي تناقض ما تم الاستقرار عليه من نظر التاريخ بوصفه «حكاية عن العظماء».
في روايتها التي تأتي بعد غياب نحو عشر سنوات، يجد القارئ نفسه أمام ملحمة سردية تشتغل على فضاء غير مطروق في السرد الروائي الخليجي وتذهب الى ما قبل سنوات النفط بتناول عالم صيد اللؤلؤ وحياة الغواصين على مراكب الصيد، عبر عملية صهر و«تسبيك تاريخي» تجمع بين العديد من الأصوات في بنية معقدة أقرب ما تكون لحالة من حالات «التوالد السردي» والترصيع «الذي يطرز أكثر من حكاية في غابة من الأصوات».
تستبدل ميسون الاشكال الروائية التقليدية. بدلاً من التقسيم التقليدي للفصول، تقترح تعبير «المغاصات» الدال على لعبة الغوص. ولكل مغاصة حكاية كاشفة عن الأثمان المدفوعة قبل بلوغ المجتمعات الخليجية نمط الحداثة البرانية المرفهة. ثمة أصوات تم اخفاء أوجاعها ووجدت في هذا النص مساحة للتعبير عن حضورها المطمور الذي يمكن الاستدلال عليه من دلالة تعبير «الغوص» التي تتجاوز المعنى المباشر الى الدلالة النفسية للتعبير.
«خلخلة» الصور النمطية التي ولدها الاستشراق عن الخليج

لا تتحرك الرواية فقط في المكان، ولكن بالتوازي تقدم عالماً معاصراً في الزمن الحالي لفتاة من الإمارات تدرس وتعيش في القاهرة (شمسة) وتسافر إلى وطنها من أجل بحث انثروبولوجي يفتح لها آفاقاً وعوالم يتداخل فيها الواقعي بالأسطوري والحقيقي بالخيالي. تستدعي حكايات جدتها عن «عقد من اللؤلؤ» تلبسه الأم ويحمل «تاريخاً للوجيعة». تنفتح شمسة في زمنها المعاصر على رسائل ووثائق لرحالة ومستشرقين تنتمي إلى الماضي المهمل وتضيء مرحلة مهمة من تاريخ الخليج وأطماع الدول الاستعمارية فيه من خلال بنية مركزية لرسائل كتبها الرحالة وليم جورج الذي رافق سفينة للغوص بغرض صيد اللؤلؤ وكتب رسائل لصديقة جيرارد يكشف فيها ما عاشه من تجارب عمل ترواح بين مهنة الرحالة ومهمة الجاسوس.
تتوالد من حكاية شمسة حكايات أخرى مصدرها الجدة التي تروي عن رحلة مرهون غواص اللؤلؤ وتاريخه وصعوده للغوص على سفينة أبو حمدة بحثاً عن اللؤللؤ أي السفينة نفسها التي كانت تحمل وليم. من خلال التقاطع بين الروايتين (رواية الجدة عن مرهون وما ترويه اوراق ورسائل وليم)، تتوالد حكاية أخرى بطلتها «آمنة» التي تزوجت من يوسف النوخذة الذي صعد للسفينة وسرق اللؤلؤة وهبط بها ليتزوج زوجة أخرى تنجب له الولد. لكن في غياب زوجها، تتمكن آمنة من الهرب باللؤلؤة في رحلة مغامرة على سفينة كاترين المرأة الاستعمارية ذات الهوية الجنسية الملتبسة التي تذهب بها الى الهند.
بين تمرد البطلة المعاصرة «شمسة» على حياتها وتمرد بطلات من زمن مضى، يسهل التعرف إلى ما تقترحه الاصوات النسائية المقموعة من تاريخ بديل للصراع الذي ينتهي ظاهرياً بقتل آمنة وعودة مرهون إلى البحر مجدداً.
وكما في رواية «ريحانة»، تشغل النساء المساحة الأبرز في رواية صقر ويقدمن كضحايا أو قرابين، فعالم «الغوص للرجال، وليس للنساء أبداً». مع ذلك، هناك حفاوة بالغة بالتمرد وبالروايات البديلة التي تخلقها النساء كأنهن يطبقن ما سعت اليه فيرجينيا وولف وهي تشير الى حاجة التاريخ الى «ملحق» تكتبه النساء. النساء مضافات الى التاريخ وهن ايضاً ينتهزن فرصة اعادة كتابته، وهو ما سعت «شمسة» الى تنفيذه بتبني مقترح بحثي يناقض اقتراحات أستاذها عز الدين.
من ناحية أخرى، ثمة استعارات عديدة في النص الذي يمكن كذلك أن يقرأ كـ «رواية رحلة»، لا تتبع فقط مصير مرهون الضائع، بل أيضاً رحلة شمسة التي لا يمكن فصلها عن رحلة آمنة التي تستعيد شمسة المتمردة صورتها الأولى من خلال تداخل الزمان والمكان أو ما كان ميخائيل باختين يسمّيه «الزمكانية أو الهرونوتوب» في الرواية أو العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان. إنّه تقصٍّ لسيرة «الزوال» المرتبط بفضائين ربما كانا على النقيض، غير أنّهما يؤكدان «الزوال» وهما البحر والصحراء.
ولا يمكن النظر الى رواية «في فمي لؤلؤة» بعيداً عن الرغبة المضمرة من الكاتبة في «خلخلة» الصور النمطية التي ولّدها الاستشراق عن المنطقة والأدوار التي لعبها الاستعمار الكولونيالي في استنزافها وتماثل سلطة معرفية كانت مستهدفة في النص الذي سعت كاتبته الى جمع العديد من النصوص والمواد التي توثق لحضور اللؤلؤ في هذه المجتمعات. صور تضرب ما تم تكريسه في عملية استقصاء بالغة التعقيد.