مَن هو شعبك؟ وما هو الرباط؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن سؤال واحد، سؤال خفيف واحد: مَن كان يحكي ولمَن؟ كانت الحفلة في الرأس، في الرأس وحده، الرأس الواحد وحده، الخلاعة في الرأس، الإيمان، النجاح والفشل، الصوت والصمت. الناس كانوا في الرأس. هل عواصف الرعد الليلة عواصف رعد؟ لا، إنها رقصٌ في الرأس، هذا الرأس الحيّ فقط في سجنه، الميّت بين الأحياء!
■ ■ ■


عريٌ إلى وراء العري
براءة تكسف البلاهة
شرٌّ ينير شَرَرُهُ الظلام.
«لمَ تنظر إلى أسفل؟» يسأل التمثالُ ضيفه
فيجيبه: «كي أُفردَ جَناحَيَّ أوسع من الهاوية».

■ ■ ■


بين أقزام وسماسرة يتنقّل الأبطال من حولنا، على أرض البحر التي وصلت نفسها بآفاق المجهول، على أرض البحر التي ألّهت الحريّة، على هذه الأرض، موطن الذكاء في جميع مغامراته، يلهو بالرقاب والمصير لصوصٌ ومجرمون وأقزام وسماسرة. آكلو الحقوق فاجرو النهب والسلب. يكاد لا يمرّ يومٌ على الصالح حتّى يتبدّى فساده. ما أقلَّ الذين لا يُندّم ماضيهم على حاضرهم! وما أقلَّ أقلَّ أصحابَ الماضي الذي يُعاش له، يُعاش عليه! وما أقلّ ما يستمر هذا الوهم!
وما أعظم هذا التراب، وما أقلَّ عدد حبّاته الباقية في القلب!

■ ■ ■


هذا خروج عن الموضوع، ولمَ الخروجُ من الموضوع؟ وهل يخاطب المرء غير نفسه؟ وفيمَ تُجامِل النفس بحديث لا ينكأ فيها جرحاً ولا يدمل آخر؟ لمَن يقول: أنت واحد من هؤلاء الناس، أقول: لم أكن واحداً من شيء، لا أنا كنت ولا هُم، إنها وحدة حال مُخْتَرَعة، وحالاتُ التمازج بينها كانت تجارب لتعميق الوحدة، لإعادة تعميد الفراق، لتعذيب المجرَّب بإطعامه فاكهة مستحيلة، أمكن تذوُّقها سحابة حلمٍ خَطَرَ في صميم كابوس.

■ ■ ■


ومَن أحبّونا لا نستحقّهم
ومَن أحببناهم لا يبرحون الرأس حتّى ينفجر.

■ ■ ■


مَن يحكي؟ مَن يَسمع؟ هل من أحد؟ ممثِّلٌ في مسرحٍ خالٍ. لمَ هذه الأسئلة؟ عندما يَخْتلط، لا يَخْتلط. وحده هكذا أم كلّنا؟ طعم هذا الكبريت. أهذا هو الإنسان؟ رحماكَ أيّها الغائب، أهذا هو الإنسان!؟
الوحدة أفضل لو كان الأمر مجرّد اعتياد العدم. لكنّه التساقط.
تتباطأ لأنّكَ حاقدٌ أيّها الشبح!
عجِّل أيّها الأحمق المتذاكي، وابتعدي يا شمسُ، لتصبحَ على خيرٍ أيّها الليل، أيّها الليل ذو الجيوب الساترة، ذو الأحضان السهلة. ولكنْ ليتَ فيكَ أيضاً ما يُسرّي عن المرء في النهار، ذلك الانشراح، ذلك الانشغال. لا تكتمل مع شيء ولا مع أحد.
خذ المشاهير، لماذا ليسوا أقلَّ موهبةً وأكثر عبقرية؟ حيث المواهب تُرائي وتكذب، العبقريّات تستقيم في هَبَل أخلاقها! المواهب نجاحٌ والعبقريّات انتحارٌ ينتصر. المواهب جاهلة وما بها عطشٌ إلى محبّة بل إلى خَدَم. العبقريّات، كالطفولات تماماً، مكسورة على ضلوعها تخجل بصوت خطاها وتحمل ذنوب الظاهر والمستتر على عينيها.

■ ■ ■


يقول: «لنا الساعة التي نحن فيها». ليست لي الساعة التي أنا فيها. ولا هي فيَّ. لا أملك نصف ثانية. كيف تقول إن لك الساعة التي أنت فيها وكأنّكَ لا تسأل عمّا بعدها؟ مَن يقل «لي الساعة التي أنا فيها» يملك اللحظة والأبديّة. مَن ذا الذي يستطيع القول إنه يعيش يومه وكأنّه سيموت غداً؟ يومه؟ ساعته؟ أيّ إنسانٍ سعيدٍ هو هذا! وهل أحدٌ في هذه القناعة إلا المستسلم للمجهول كما يستسلم الساهر مدحوراً إلى النوم؟ ما أكذبنا فيكِ أيّتها الكلمات!

■ ■ ■


هل كنتَ تُهدي الحورة والحبق على اسم أحد؟ لماذا تشكو إليهما الآن؟ هل أظهرت للأزهار والخضر، للسواقي والأثلام، للجِلالِ والحصى، هل أظهرتَ للشرفة والنافذة والرطب واليابسة ما تتظاهر الآن بأنّك تكنّه لها؟ أتريدها أن تتعاطف معك، لأنّك اكتشفتَ فجأة أنّها، والحيوانات ذوات العيون الكبيرة الخائفة، أقرب إليكَ من نفسك؟ هل تظنّها هي الملائكة؟ ألم تغرس في هذه الأرض سوى الغرس الذي زرعه الآخرون؟ هل تظنّ لك حقّاً في هذه المساحات؟ ما أكذبنا فيكِ أيّتها العواطف!
قوّةٌ لا هدف لها. جرحٌ في الوعي، في كل لوحٍ أمام العينين. شيطانٌ يرأف بطفلٍ ويصاحبه. يفارقه حين يزايد عليه، يعاوده حين تأخذه توبة. ما أكذبنا فيكِ أيّتها الذكريات! أيّتها المواقف! ما أكذبنا فيكَ أيّها الصدق! مسكينٌ يستحقّ الرثاء هذا التغليف، هذا الضعف، هذا التجبّر المصطنع. أكثر ما يعطينا صفات المحكومين هو هذا الفَخَارُ بأنّنا أحرار. ما أطولَ صبركِ علينا أيّتها الأشياء!


■ ■ ■


وليس صحيحاً أن الواحد يكبر. الواحد يصغر. يتضاءل ويتقلّص كالمبتعد. نظركَ هو الذي تعب من التوقّف عنده. نظركَ يكبر ويهرم. انظر إلى هذا الواحد كيف ينأى، هذا الضباب الذي بدأ يحجبه هو أنتَ، أنتَ الناظرُ إليه يغوص ولا تنتشله.

■ ■ ■


الانتظار غصنٌ مجنون في شجرة عاقلة!
أهو الذي يحميها من الأعاصير والصواعق أم هي التي تخبّئه في قلبها؟
الأمل غصنٌ ناحلٌ في شجرة قاسية!

■ ■ ■


في عيون الناس وجهان ولا وجه لعينيك، ولا وجه على الإطلاق! لا وجه لمَن لا يجرؤ على الوقوف أمام المرآة! لا وجه لمَن أعار حياته للحبّ، لأن الحبّ يأخذ وجوه القلب ويأكل كلَّ يومٍ وجوهاً ولا يشبع! النساءُ وحدهنَّ يعرفن هذا. لولاهنَّ لجفَّت مياه المرايا.
عندما نولد نبكي لا لأنّنا نخاف فقط بل لأنّنا عرفنا فوراً.

■ ■ ■


يصرخُ الصارخ في صمته. يسمعه صامتٌ آخر في صراخه. أخويّة مكسورين، خارج الإطار البشري العارم. وإذا كتب، يصرخ الكاتب في وجه نفسه. أرنبٌ يعرض رجفته للقمر. الأخويّة الصغرى مكسورة، الأخويّة الكبرى نهرُ الحياة الأصمّ.
ماذا يفعل الصارخ في عزلته؟ يبحث عن عزلة أعمق! لماذا؟ لأنّه لا يريد أن يخرج بل أن يُمعنَ في الدخول! يحتاج إلى ما يُلهي، ولكن في أحشاء الزاوية، تحت معطف أبيه، بعيداً عن المشاركة. التغلغل في الفراش، تحت الدَّرَج. في مأوى الغربة الدافئ. لا يحمل مشروعاً إصلاحياً، ليس ثائراً ولا قائداً، إنّه لاجئ. أعصابه عارية تحت أنياب العالم. هو: الفيلسوف، الشاعر، الفنّان، المرهف، المتوتّر، الآرِقْ، الهارب من نفسه، الواقف على مَشْحرة روحه، المذعور الجبين، الملهوف على مقبضٍ يحميه من الوقوع، والمقابض تتلاشى تحت اليد، أيّ واحدٍ من هؤلاء، ومن سائر «الباحثين»،
لا يبحث عن خير العالم، بل عن وقاية من شرّه، ولا عن خلاص البشريّة بل عن يوم بلا رعب، ولا عن المجتمع الأمثل بل عن عقارٍ سحريٍّ يخطفه عن وجه الأرض دون أن يُبَهْدله العمر.

■ ■ ■


المقاعد في الصالة فارغة.
طوال العرض، لم يكن هناك أحدٌ على المسرح.

* نشر هذا المقال في تاريخ 15 تشرين الثاني 2008