كم دولة عضو في الجامعة العربيّة؟ 26؟ 28؟ هذه تتبع السعودية، هذه إيران، هذه إسرائيل، هذه أميركا... أما من دولة فيها رائدة؟ سيّدة نفسها؟هذا السؤال ليس لي. ولا لعربي.
هذا السؤال طرحه أمامي شاب إيراني صادق ومتألّم من الحال العربيّة الراهنة.
الراهنة؟
إذا استثنينا مرحلة عبد الناصر، متى كانت الحالة العربيّة غير راهنة؟
شخصٌ في لبنان كان وزيراً قبل عقود لا يزال مقدّمو البرامج والنشرات التلفزيونيّة يعرّفون عنه على أساس أنه الوزير فلان الفلاني. حنينٌ لبناني إلى عروبةِ الصحراء حيث يولد المرء مؤهّلاً لمنصب وزير خارجيّة إلى أن يموت الوزير الجالس فيحلّ محلّه المؤهّل منذ الولادة ويظلّ في الكرسي حتّى الممات.
وهكذا في السلطة العليا، رئيس إلى الأبد.
ليس إلّا في ميادين الخَلْق حين يموت الواحد يموت.
يوم كان عبد الناصر وقفنا ضدّه لأنّه ديكتاتور. ألف مرّة ديكتاتور كعبد الناصر ولا مرّة سفّاحون وأغبياء مثل اليوم.





الانبهار بالطغيان


إنْ لم يُهينونا يتملّقوننا. إمّا الركل وإمّا النفاق. إمّا عبيد وإمّا زبائن. العدالة الوحيدة في هذا الكرنفال هي أنّ السلطوي، مهما خاتل وخادع، ينتهي به الأمر مخدوعاً.
ضحايا يبهرهم الطغيان. يجتذبون شرّ الأقوياء. يخترعون جلّاديهم. لماذا لا ينبهر الناس بالضعف؟ لمصاذا لا ينتخبون رافضي السلطة؟ تتغرغر الشعوب بتصريحات الأميّين والنصّابين، وتجهل أسماء المخترعين والعباقرة. غباء الشعوب يستدرج الدجّالين والطغاة كما تستدرج الأضداد عكسها.





باطنيّة

قد يحتاج مقال إلى قراءته كنوتة موسيقيّة. عندما ضيّقت الشرطة السريّة السوفياتيّة على فنّاني البولشوي لجأوا إلى أعمال «باطنيّة». سيحتاج العرب، قبل أن يكملوا انتقالهم إلى عهد الحريّة، إلى مفكّكي ألغاز وطلاسم لأنّهم سيضطرّون إلى الكتابة الباطنيّة. إنْ كتبوا جهراً فخيراً يفعلون. وإنْ تعذّر الأمر فلا بدّ من السريّة، وإلّا فلن يكون أحد منهم قد احترم أعراس الدم التي أغرقت سوريا والعراق وقبلهما لبنان حتّى الرأس.
لن يستطيع الروائيّون العرب إعطاء شهاداتهم كاملة عن هذه المرحلة في رواياتهم. لا أنتقص من قدرتهم بل أستهول إجرام البوليس السريّ. فضلاً عن صعوبة إعادة خلق الواقع وهو لا يزال يعايشنا. أمّا البوليس السريّ فما إنْ يرتوي من دم المقاتلين والمسالمين حتّى ينبري إلى المثقّفين. أو العكس. سوف يشعر بالذنب أنّه ترك التوهو بوهو المستشرية في البلاد تستفحل وهو منشغل بقتل العامة من غير المثقّفين.
كلما سمعتُ أحداً من البوليس السريّ يتحدّث على الشاشة تأكّدتُ أنّ البريء ملاحَق والمرتكِب يُنظّر واثقاً من عصمته لأنّ جذور عمالاته ضاربة في رحم المجتمع. ومَن يهدّده غير مُخرّج القَتَلة، وهو صديقه؟





بديهي

صرتُ موجوداً مدّة تخجل من الاعتراف بطولها وتتحسّر من سوء استغلالها.
كان الواحد يقول: «جئتُ ورأيتُ وذهبت». ربّما لم يكن سعيداً بالذهاب لكنّه كان يوحي أنّه ارتوى.
ربّما الحياة كانت مركّزة أكثر حيث يستحيل تضييعها. أو أن الإنسان كان أقلّ طمعاً وأشدّ انكساراً.
غير صحيح القول إنّنا نهرب من واقعة مجيئنا إلى الحياة أكثر ممّا نهرب من الموت. «أجمل ما في الحياة _ تقولين _ هي الحياة».
الذين يربّوننا على الخوف، بالدين والصحة والتهديد، لا يكرهون الحياة بل الأحياء. لو استطاعوا مصادرة الحياة لأنفسهم وحجبها عن الآخرين لفعلوا.
أجمل ما في الحياة الحبّ، بكلّ أنواعه، حتّى اللحظة الأخيرة.





بلا مظلّة

في انتظار شيء.
لا المطر ينزل ولا الشمس تكفي.
ولا الشراب ولا الطعام.
ولا أنا ولا أنتم.
في انتظار ما أرغب وما أرهب،
وما أشعر أنّه يراقبني،
وكنتُ سأمارس شعوذتي عليه،
وبتُّ موقناً أنّها لن تنفع.
في انتظار شيء
وأنا مكشوف في العراء.




القسم الثاني

كنتِ تقولين: «عرفت أنّك ستأتي»
فأصمتُ وأُكمل في صمتي تتمّة العبارة.
كنتُ أقول: «لم أقدر أنْ أنتظر»
وأعرف أنّكِ ستكملين في سرّك تتمّة العبارة.
كان يقال لنا الشيء فلا نستوضح
كنّا نكمل بإحساسنا تتمّة العبارة.
حياتنا قسمان: الأوّل، ذلك النصف كلام
والآخر الدافق كلاماً.
أمامنا بعض الأيّام
تعالي نكتفي بما قلناه.



عودة إلى رئيف خوري

ينطلق الدكتور أحمد عُلبي من شعور العدل ومن جذور يساريّة كي يكرّس كتابه الجديد (639 صفحة) لرئيف خوري في مناسبة احتفاء الأوساط الثقافيّة بانقضاء مئة عام على مولده (1913 _ 1967).
ملأ رئيف خوري زمانه حركة وخصباً، فله العدد الوافر من المؤلّفات، وهي موزّعة ما بين الدراسة الأدبيّة والمقالة والقصّة والشعر، فضلاً عن مؤلّفاته المخصّصة لتعليم التلامذة تاريخ الأدب العربي.
كان رئيف خوري، على تعبير يمنى العيد، مناضلاً حرفته الأدب، واستطاع، إلى حدّ، أن يوفّق بين نسبةٍ عالية جدّاً من الالتزام السياسي والاجتماعي ونسبة لا بأس بها من الاعتناء الجمالي.
ممّا يستوقف القارئ تلك المقارنات التي يجريها بعضهم بين رئيف خوري وعمر فاخوري، باعتبارهما، على الأرجح، جنديّين في معسكر النضال اليساري. شخصيّاً لا نرى في مقارنةٍ كهذه وجه تَعادل، كما لا نرى أيّ مجال للمقارنة بين رئيف خوري والشيخ عبد الله العلايلي رغم كونه محسوباً على المعسكر السابق ذكره. سبب الفرق، بل الفراق، هو اللغة. لغة رئيف، رغم ما يتخلّلها كالبروق العابرة من عنايات لفظيّة وصياغات توحي عدم نسيان الشكل كليّاً لحساب المضمون، لغة واضحة مباشرة تفصح فوراً عن مكنونها ولا تدعو قارئها لـ«المزمزة» إلى مائدتها.
وهناك فوارق أخرى. عمر فاخوري ساخر ومتأثّر بأناتول فرانس إلى حدّ النسيان مرّات أنّه «مناضل» لا مجرّد أديب حرّ، فيغرق في استهزائه وفي نزعته التفكيكيّة. أمّا العلايلي فتأخذه اللغة وفتوحاته فيها إلى التحليق بعيداً عن واضح القول.
كيف يجتمع ثلاثة زملاء في الموقف على ثلاثة أساليب مختلفة ومتنافرة في التعبير؟ مسألة تستحقّ النظر، خصوصاً أنّها تستفحل اليوم بعد مرور العقود على غياب الثلاثة ومرور مياه كثيرة تحت الجسور وفوقها. لن أتجرّأ في هذه العجالة على الإفاضة في محاولة التحليل، وأكتفي بعنصرٍ واحد قد يصلح للتأمّل: مقدار التأثّر بلغة القرآن. وإذا كنّا قد نتفهّم بسهولة شدّة هذا التأثّر عند العلايلي فكيف نفسّره عند الشكّاك الساخر عمر فاخوري؟ إنّ بلاغة القرآن ترفرف كالنسر غير القابل للتجاهل فوق كتابتهما، وفي المقابل لا نجد لها مثل هذا الأثر عند رئيف خوري.
وكان هذا التأثير، إنْ صحّ تحليلي، إيجابيّاً خلّاقاً عند الفاخوري، وعامل تعقيد عند العلايلي، وغائباً عند رئيف خوري.



عابرات


بلاهةُ الرجلِ في علاقته بالمرأة يجب أن تكون كافية لمنع تسليمه أيّ منصب أو مسؤوليّة على جانب من الخطورة. العاشق الذي يقف مسطولاً أمام معشوقة قدلا تستحقّ الاهتمام إلّا لكونها كائناً ضعيفاً، هذا العاشق يبرهن أنّ الليبيدو عنده أغلق عقله. كيف لمَن يُغلق عقله لشهوة أو لانجذاب غريزي أن يكون مسؤولاً؟

***


عينان لا تعرفهما وتتخلّجان فيك. عينان ترى فيهما الضفّة الثانية للهاوية. عينان لتخدير الوعي وتفوير اللاوعي. عينان تتوسّلان إلى الله من خلالك.

***


لماذا أقبل بما لم أكن أقبل به؟ لماذا أحضر هذا الفيلم التافه؟ فيلم «بيوتي اند ذا بيتش» البيتش الحقيقي فيه هو المرأة ذات الفكّ الموروب لا الوحش. لماذا أقبل بهذا العشاء؟ بهذا الدواء؟ لماذا أضحك لما لا يضحكني؟ هل صحيح أنّي أحبّ الكلاب أكثر من البشر؟ إذا حذفنا علامات الاستفهام وراء العبارات تبيّن أنّها لا تحتاج إلى سؤال.