سعد هاديتستعير العراقيّة سهام جبّار في ديوانها الثاني «قديماً مثل هيباشيا» («دار الحضارة» ـــــ القاهرة) قناع الفيلسوفة وعالمة الرياضيات المصرية هيباشيا التي قتلت في عام 415. إنّها تحاول التعبير، كما تقول في إحدى قصائدها، عن التجربة ذاتها التي مرّت بها «أول عالمة عرفتها البشريّة». فقد اجتمعت لها الفصاحة والتواضع والجمال مع قدراتها العقلية الممتازة، فجذبت المعجبين، لكنّ نهايتها كانت مأساوية. تتماهى جبّار معها «ليست يداي سوى يديك/ وفمك شفة من شفتيّ/ وأنت بعض ظلامي/ وليس يكفي غير الظلام ليكتمل عرشُ مستوحدة».
لا ينقطع حوار الشاعرة مع فيلسوفة الماضي، بل إنّ الماضي، أفكاراً وصوراً، حاضر دائماً، تستعير أحزانه ومناطقه المظلمة وصراعاته العنيفة لتصف حاضرها الملتبس «تحمّمتُ بكل تلك الفلسفات/ بالمنحوتات المقطّعة الرؤوس/ وأنا أحصر القتلةَ بين سياج/ لعلّهم البرابرة/ لعلّهم البدو في تيههم/ حكمت الآلهةُ أن تنمو المتاهةُ بين الأصابع/ فكلُّ يدٍ تائهة، وكلُّ حبٍّ توحّش».
هنا وفي قصائد أخرى، يزدحم المشهد بالمتناقضات، بصراع مستمر بين قوى ومخلوقات قادمة من أزمنة مختلفة. لكن ما تعيد الشاعرة تشكيله، هو التعبير عن الحاضر الذي يحاصرها وتعيد وحوشه الواقعية والمفترضة صياغة أحلامها بقسوة. هكذا تبدو الشاعرة مجبرة، دفاعاً عن ذاتها في مواجهة ظلام الواقع، ألا تعيش في الحاضر فقط، بل توهمنا عبر استخدام الأقنعة بأنها نتاج لسلسلة متتالية من الأزمنة التي أعطتها نار الشعر. إنّها كما تصف نفسها «أنا النار الطاعنة/ ربما طاعنةٌ في السنّ/ ربما لي أسلحةٌ أخرى/ ووجهي مفزعٌ يرقص حول التسميات». هي إذاً لا تنتمي إلى هذا الزمان وحده، هي كائن شعري طاعن في السن يعيد تكوين ذاته باستعارات متفاوتة الأطر والخلفيات، عبر لعبة ابتكار مستمرة.
تأرجح متواصل بين الأزمنة والأمكنة، واستخدام أقنعة شعرية وغير شعرية... بل استخدام أجساد تتناسخ، تعيد المأساة تشكيلها «أيتها الأجساد اختفي/ لا تتطايري ولا تتناثري/ فقط اختفي/ فالهواء شباك تردم بك القنبلة/ والمسافة علقتك بسيلوفان القبر، لا أصدقاء لا أحبة/ ولن يشفع جسد لجسد».
سهام جبّار، الثمانينية التي لبست قناع الشاعرة وحده في مجموعتها الأولى «الشاعرة»، أصابتها في تموز 2006 رصاصة طائشة. بدت تلك الحادثة كنبوءة كامنة في شعرها، كما تندمج أيضاً بالمناخ المأساوي للقصائد جميعها الذي يقع القارئ تحت سطوته، ويعيد دون وعي استحضار معالمه الروحية واللغوية، مردداً مع الشاعرة: «لماذا الضوء رماد؟ لأن النار كاذبة». و«سأسردُ سيرةً لهم/أجتزئُ منها بقيّةً هي لي/ هم شربوا وأنا الثمالة/ وهم بنوا وأنا الثغرة/ اُنتزِعتُ بين الأضراس/ وسددتُ فمي/ فأنا أجيال من أطفال لم تنبت/ بيتي ليس بين البيوت/ كتبي تحملني وترفرف/ كأنني حلمُ شاعر».
ثم يستمر حلم الشاعرة الأبدي الذي يتحطم بين النقائض «بين الضوء والظلام/ بين الأنوثة والذكورة/ بين الفرح والمأساة/ بين البلاد التي تغرق في محنتها والمنفى الحزين بكل ملاذه». وعبر ذلك، عبر لعبة المحو والإظهار، تمتلك القصيدة وجودها الخاص، وتنتقل من صورتها اللغوية إلى كيان خيالي قائم بذاته لا نهاية لموحياته.