لأنَّ الحقيقة شمسٌ، لا يمكن حجب نورها... اللامتناسقون، المتفككون أو Les Incohérents صفحة مفقودة من تاريخ الفن المتمرّد، تظهر للنور أخيراً في بيروت، بعد تغييبها عن الساحة الفنية العالمية لعقود بشكل قسري. هنا الحقيقة التي لم تكشف بعد عن الدادائية، عن مارسيل دوشان (1887 -1968)، عن فرانسيس بيكابيا (1879 - 1953)، عن مان راي (1890 – 1976)، وتيّار الـ «فلوكسوس» وغيرهم ممن أيقنهم تاريخ الفن، في كتاب هو الأول من نوعه. يضع «الفنون المتفككة 1882-1893 ـ الصفحة المفقودة من تاريخ الفن المتمرد» (دار «جروس برس ناشرون») حقبة مهمة من تاريخ الفن الحديث والمعاصر قيد النقد.إذ يفتح التشكيلي والأكاديمي حسين حسين (1970) بكتابه البحثيّ هذا ملفاً خطيراً ومغيّباً يوثّق لإحدى أكبر عمليات النسخ في تاريخ الفنون التشكيلية الحديثة، مما يؤثر على السوق الفنية التشكيلية وبورصاتها، وعلى المصداقية الفنية ككل.

الكتاب الكاشِف

كتاب تفصيلي (رافقه عرض يوم التوقيع قبل اسابيع، احتضنته جامعة LIU)، كان موضوع أطروحة الدكتوراه التي نال عنها الفنان التشكيلي والأستاذ الجامعي درجة مشرف جداً في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية. هنا يظهر طمس الحقائق، وبالتالي تزييف التاريخ الفني بعد قرون، بالأدلة والبراهين، وببحث متين مرفق بنماذج استعادها حسين من التاريخ ليظهر الحقيقة ولو بعد مئات السنين.
كتاب بجزئين (فرنسي وعربي من 384 صفحة) يطرح بشكل أساسي أزمة المصداقية في الفنون الحداثوية والمعاصرة. والأهم أنه يفنِّد بالأمثلة المقرونة بالأدلة مجال النسخ اللافت من قبل الدادائيين وغيرهم للامتناسقين/ المتفككين. ينطلق حسين من جمع الأديب جول ليفي (1857-1935) في «كاباريه القط الأسود» (1882) في باريس، فنّانين تسلحوا بالفكاهة والسخرية مختارين اللامنطق. برز هؤلاء من خلال أنشطة وأعمال فنية متمرّدة بامتياز.

كان الإنتاج الدادائي يتم
بالفكاهة والسخرية والاستفزاز تماماً كأعمال المتفككين
لكن بعد نجاح باهر، اختفت ظاهرة الفنون المتفككة ولم يبقَ منها حتى يومنا هذا سوى بعض الاعمال المتواضعة التي لم تحث على طرح الاشكالية الأساسية: كيف يُنسى نجاح ضخم كهذا؟ ثم يشير حسين حسين إلى ظهور هذه الأعمال مجدداً بعد حوالي قرن على يد فنانين آخرين (أصبحوا هم أيقونات الفنون الحداثوية) تزامناً مع اختفاء ظاهرة المتفككين ونسيانهم من قبل النقاد.
هنا يرسّخ المقارنة بين جمع تريستان تزارا (1896 ــ 1963) فنانين في «كاباريه فولتير» كما فعل ليفي في «كاباريه القط الأسود»، حيث اختار تزارا اسم «دادا». أما ليفي فقد اختار اسم «المتفككون». وكان الانتاج الدادائي يتم بالفكاهة والسخرية والاستفزاز تماماً كأعمال المتفككين. تناقش أعضاء مجموعة دادا طويلاً حول المصطلح، علماً أن أحد المتفككين قد استعمله سابقاً!
وهنا تكر سبحة المقارنات ثم يتضح النسخ مع كل مثل جديد، لنصل إلى حقيقة تاريخية مفادها أن الفن الاعتراضي قد تشكّل قبل التاريخ «الرسمي» المعتمد.
يؤكد الباحث هنا أن تاريخ الفن أهمل «الفنون المتفككة» بسبب عدم اظهارها المعايير المطابقة للفن المعاصر، متسائلاً: كيف يمكن إخضاعها لمعايير فنية لا تخضع لها التيارات المتمردة؟ إذا اعتبرت أعمال المتفككين مماثلة لأعمال مزعزعي فنّ القن العشرين، فسيتعين علينا إعادة النظر في أصالة هذه الأعمال وتميّزها على حد تعبير حسين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكاتب لا يهدف من عمله إلى إثبات أن الفنانين المعاصرين استعانوا بالفنون المتفككة، بل إلى جعل المتفككين في مرتبة الفنانين المتمردين. وهي حقيقة لا نمن عليهم بها.

أزمة المصداقية

نعم في بيروت، مارسيل دوشان على المحك، ومان راي، وبيكابيا، وروشنبرغ وجوزيف بويز والدادائية بذاتها وتيار الـ «فلوكسوس»، إضافة إلى عشرات كبار الفنانين من العقود التي خلت، وقد درس طلاب الفنون والتشكيليون على الكوكب كله، على أنهم مؤسسون لأنماط جديدة في تاريخ الفن! استطاع حسين حسين أن يبرهن أن كل هؤلاء كانوا ناقلين ناسخين لابداعات غيرهم، خافين انهم نسخوا وقد ساعدتهم على ذلك أنظمة كاملة. هل تكون أمنية؟ طبعاً كل ذلك مقرون بالأدلة التفصيلية، والوثائق. لكن الأهم، ليس فقط أنّ أيقونات الفن الحداثوي والمعاصر قد نسخوا أم لا، بل المهم إعادة الاعتبار للفنانين الأصيلين.
قد يصعب تصديق ذلك، فحقيقة صاعقة مثل هذه قد تدفع كثيرين من أهل الفن إلى الضحك ثم التساؤل فالضياع، أو البحث من جديد. والحقيقة أن هذا الكتاب الوثائقي التأريخي الكاشف يُظهر بالفعل أننا أمام عهد اظهار الحقائق، وأن البروباغندا التي قد يقبَلها الوعي الجماعي على مدى عقود على أنها حقائق، سوف يسقط زيفها يوماً على ايدي الباحثين النهمين عن الحقيقة.
«كل كتب الفن تتفق على أن الفن المتمرد انطلق مع التيار الدادائي سنة 1916 من دون أي ذكر لظاهرة تأسست سنة 1882 وقد سبقت الدادائية. تشبه الظروف التي أدت إلى ظهور الدادائية إلى حد بعيد تلك التي ولدت فيها «الفنون المتفككة». بعد مجد أكثر من عشر سنوات، تلاشت هذه الظاهرة (المتفككون) واختفت. بعدها، لم يذكرها أحد ما يقرب قرناً من الزمن. حتى أعادت ذكرهم الكاتبة ك. شاربين سنة 1968. مع ذلك، لم يتم إعطاؤهم أي صفة فنية، والسبب عدم توافر أعمالهم. ظلّ «المتفككون» وما زالوا غير معروفين للجمهور. تجاهلهم النقاد بحجة أن المتفككين لم يأخذوا أنفسهم على محمل الجد. ولهذا السبب، يبدو أن تاريخ الفن لم يجد لهم مكاناً يليق بهم بين صفحات كتبه» بحسب ما يوجز حسين حسين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنها المرة الأولى التي يعاد فيها تركيب وتشكيل أكثر من خمسين عملاً من أعمال المتفككين (اعتماداً على صحافة عصرهم) عُرضت يوم التوقيع.
وتبقى الخلاصة في آخر الصفحات الكاشفة من الكتاب (ص.103 من القسم العربي). يكتب حسين حسين: «على افتراض وجود تجاهل متعمّد، أصبح من السهل، في نطاق يمكننا من خلاله، ولأسباب سياسية، إنشاء مجموعة من التيارات الفنية، عمداً، لصالح حرب باردة، وتجاهل تيار، ومنعه من الظهور حتى بعد انطفائه، لا سيما عندما تتمكّن إعادة ظهور هذا التيار أن تؤثر على القيمة السوقية للأعمال التي يمكن بطريقة أو بأخرى أن تتماثل مع الأعمال المتفككة. الفن المعاصر هنا، إذ يعتبره والتر بنيامين آلياً أو فاقداً للجمالية، وبحسب بودريار يُعتبر معدوماً، أما دوميك، فيقول إنه مملّ أو من إنتاج السوق، وهو دليل وقت مستنفد أو من دون محتوى. لا يزال هذا الفن هنا. وعلى الرغم من كل الانتقادات، فإنه لا يزال يقاوم ويجد حقلاً يضمن بقاءه. أما ما يسعى إليه هذا الكتاب، فهو إيجاد مكان للمتفككين في صفحات تاريخ الفن، وبشكل إلزامي في صفحات الكتب الجامعية، إذ لا بد من عرض ظاهرة المتفككين عند ذكر الدادائية».