* عن كتاب «نسيج العمامة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) لحسين المحروس
هو نسيج وحده، لا عمامة تشبه عمامته، هادئ تماماً من فرط الاطمئنان، لا تزلزله غير الكتابة، أخلص لها وحدها، اعتبرها أنثاه الوحيدة والأخيرة. النساء في حياته متعددات وهو لهن بقدر ما يهبنه خلوة الكتابة، الدرس الأول الذي يجب أن تتعلمه المرأة الجديدة في عالم السيد هو كيف تدخل عليه وقت الكتابة، أو بالأدق كيف تتركه في خلوة الكتابة، شعاره «الكتابة أحلى عندي من فتاة بكر في ليلة زفافها، أظل أكتب فلا أتوقف حتى يضطرب القلم في يدي. هذه علامة الوقت عندي».

فقد أمه وهو ابن سنتين وستة أشهر، فظل «يحن إليها حنين الشيء إلى نفسه» راح يبحث عنها في مياه ينابيع ماء البحرين الغزيرة، أخذ يلاحق صورتها المتخيلة في الماء المتدفق من عين قصّاري الشهيرة حيث النساء يجلسن على حواف جداول العين يمارسن طقوس الحياة بأشكالها المتعددة، لا بد من أن أمه جليلة بنت علوي القاروني القادمة من نهر الفرات وجدت في هذه الجلسات ما يأنسها ولا بد أنها باحت لماء البحرين بشوقها لماء الفرات، فأخذ سرها معه.
فقد أباه وهو ابن تسع سنين، عاش اليتم مبكراً من الجهتين، ورث نسيج عمامة أبيه، لكنه خرج عليه، هو وحيد أمه وأبيه، ولا بد أن يكون وحيد نسيجه، فقد أعطاه اليتم المبكر حرية أوسع، وأعطته التجربة زمناً أرحب.
ذهب الهند بتوصية من مستشار حكومة البحرين بلجريف، ليعود قاضيا مكان أبيه الذي تولى ثلاث مهمات دفعة واحدة: إدارة أموال القاصرين والأوقاف الجعفرية والقضاء.
فُتن السيد بمباهج الحياة وألوانها منذ طفولته، حين كان يتسلل من أبيه ليذهب مع ابن شعبان فوق حمارته إلى مدنية المنامة القريبة من بيتهم في بلاد القديم. هناك تعرّف أول مرة على الألوان والحياة بحركتها الدائمة في السوق، كسرت يده في إحدى المرات بعدما سقط الحمار أرضاً وسقط ابن شعبان فوق جسد الصغير، فافتضح أمره عند أبيه، فحظر عليه المنامة وحمارها لكن لم تُكسر رغبته، ظلت تشتعل حتى وجد امتداد سوق المنامة هناك في الهند في «لاكناو» حين وصلها في 1937 طالبا لعلوم آل محمد في حوزتها في مدرسة الواعظين. تعلم من خارج المدرسة الحياة من غير منهج، وتعلم من شيخه شيخ مدرسة الواعظين علي تقي بن أبي الحسن النقوي المنهج من غير حياة. فجمع في عقله وقلبه الحياة والمنهج. عاد البحرين مغموماً بعد سنتين بسبب الحرب العالمية الثانية حاملاً إجازة من شيخه «وإنه لشغفه بالعلم والبحث سيكون من علمائنا المحققين ورجال الدين المصلحين»
عاد مغموماً لأن ما تعلم هناك خارج المنهج لن يجده هنا، لقد تعلم كيف يوثق اللحظة في صورة، اكتشف سحر الضوء ولعبته، فراح يتعلم التصوير والتحميض، وعلى الطريقة الحوزوية راح يُدرّس ما تعلمه ويتعلم ما لا يعرفه، حتى إنه طلب من خادمه هناك أن يعلمه اللغة الانكليزية.
تعلم هناك خارج تقاليد المشايخ البحارنة في الحوزات الشيعية، كيف يركب دراجته النارية ويحرق بها نسيج برستيج رجل الدين، ويوم ضغت عليه الحكومة ليتسلم منصب أبيه في القضاء، وجد منجاته في دراجته، طار بها وسط ساحة المحكمة وأخذ يزمجر حارقاً هذه المرة هيبة رجل القضاء حتى اقتنع الجميع بمساعدة أستاذه الشيخ عبد الحسين الحلي أنه لا يمكن أن يكون قاضياً، فصار يجول بالدراجة نفسها قرى البحرين ومناطقها خطيباً للمنبر الحسيني رادفاً معه صانعه الذي يسقط به مرة ويخالف به قوانين المرور مرة أخرى مسجلاً لقب السيد أبو المخالفات المرورية.
لقد منح هذا السيد بما تعلمه سيرته حواساً، التقطها ناسج السير حسين المحروس، فاقترب منه دون أن يزعج خلوته الكتابية، قال له أريد أن أكتب سيرتك، فرد عليه السيد خذ هذا الكتيب الصغير فيه كل شيء من ترجمتي. قال له المحروس «لا يا سيد أنا أريد أن أكتب سيرتك،السيرة أكثر اتساعاً، في السيرة حركتك في المكان وحركة الزمان فيك».
لقد أبدع المحروس في كتابة حركة السيد في كل مكان مسّته حركته، مكان طفولته فقد جعل من عين قصّاري ماء سيرة، تروي تاريخ السيد وتاريخ بلاد القديم والمنامة والناس الذين عاشوا على ضفاف حركة مائها. وأبدع في كتابة حركة السيد في مكان دراسته في «لانكاو» حيث تفتح على مباهج الحياة، وفي مكان مكتبته حيث عالمه الرحب وعرشه المكين، وفي مكان محبرته حيث طاولته القريبة من الأرض إلى حد جلسته، وفي مكانه في بيت الياسمين حيث الحب فوّاح يدخل من كل مكان كرائحة الياسمين، لقد تتبع حتى حركة السيد في تسمية الأمكنة التي فيها أنفاسه: دار النسيم، دار الأرواح، دار الانشراح، دار المقام، دار السلام، دار البديع.
لقد اقترب كاتب السيرة من السيد كأنه راويتها، فإضافة إلى جلسات الساعة الثامنة التي كانت تجمع كاتب السيرة وصاحبها طوال سنوات، فقد لاحق المحروس حركة السيد في كل مكان وزمان، راح يبحث عن سيرته عند كلّ مصدر: زوجاته، أولاده، أحفاده، أقربائه، تلاميذه الصنّاع، مؤلفاته، دواوين شعره، دفاترها الصغيرة، خطبه المسجلة في أشرطة الكاسيت، مخطوطاته، ألبومات صوره الفوتوغرافية، ملحوظاته بخط يده خلف وأسفل هذه الصور، أصحاب الدكاكين والمحلات التي يعتمد عليها في تمويل منازله الأربعة وحاجياته اليومية كبائع الأغذية، الحلاق، وبائع الخضروات، بائع الأقمشة، وبائع الأحذية.
لقد أعيت هذه السيرة كاتبها طوال عقدين من الزمان، لم يزده تفرده المبدع بالسرد والتصوير إلا دهشة أكثر تجاه هذه السيرة «كلما تمادى [السيد] في السرد أخذني إلى ملامح سيرة رجل في أفق غير أفق الذين تصوروه. هذا الشخص المصنوع من هذا السرد أبعد بكثير مما في بالي من نسيج أية صورة».